قفزات كبيرة في سباق التسلح.. هل يمكن شراء الأمن بالمال؟

“لكي تكون حرا في هذا العالم، يجب أن تُهاب، ولكي تُهاب، يجب أن تكون قويا”.

بهذه الكلمات حاول الرئيس إيمانويل ماكرون تحفيز المشرعين  الفرنسيين، في خطاب عشية عيد الباستيل في يوليو الجاري، على إقرار زيادة ضخمة في ميزانية الدفاع.

بموجب خطة ماكرون ستتلقى ميزانية الدفاع الفرنسية زيادة بقيمة 6.5 مليار يورو موزّعة على عامَيْ 2026 و2027، ما سيرفع الإنفاق العسكري إلى 64 مليار يورو سنويا، أي ضعف ما كانت تنفقه فرنسا في 2017 (حوالي 32 مليار يورو).

تتماشى الخطوة الفرنسية مع التحول الجذري في مسار الإنفاق الدفاعي على المستوى العالمي، الذي كان يتجه نحو الانخفاض بعد نهاية الحرب الباردة، وعاود القفز الآن إلى مستويات قياسية.

لم تعد زيادة الإنفاق العسكري مجرد استجابة لتهديدات متفرقة، بل ظاهرة عالمية مدفوعة بمزيج من الصراعات وسباق التسلح التكنولوجي، وإعادة تقييم للاستراتيجيات الدفاعية الوطنية.

محفزات

وفقا لتقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية 2024، وتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام 2025، ارتفع الإنفاق العسكري العالمي إلى 2.46 تريليون دولار أميركي في عام 2024، بزيادة قدرها 7.4% مقارنة بعام 2023.

هذا النمو تجاوز الزيادات المسجلة في عامي 2023 (6.5%) و 2022 (3.5%).

ونتيجة لذلك، ارتفع متوسط الإنفاق الدفاعي العالمي إلى 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، صعودا من 1.6% في عام 2022 و1.8% في عام 2023.

هذه الزيادة كانت مدفوعة بعدة عوامل رئيسية، من بينها تزايد الصراعات حول العالم.

في حديث مع “الحرة”، يوضح كبير الباحثين في مجال الدفاع لدى مؤسسة “راند” الأميركية، تيموثي هيث، أن “المحركات الرئيسية لزيادة الإنفاق تعود إلى بيئة أمنية تزداد سوءا، ويرتبط ذلك جزئيا بالغزو المفاجئ الذي شنّته روسيا على أوكرانيا، وكذلك اندلاع صراعات في مناطق مثل الهند وباكستان، وإسرائيل وإيران، وعدد من الدول الإفريقية”.

ويضيف هيث، الذي شغل سابقا منصب كبير المحللين لقيادة الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، أن هذا المشهد المتوتر يدفع الدول لإعادة تقييم شاملة لقدراتها الدفاعية.

الغزو الروسي لأوكرانيا

كان الغزو الروسي لأوكرانيا المحفز الأكبر لأحدث الزيادة في الإنفاق، خاصة في أوروبا.

ترى دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) والدول الأوروبية أن روسيا تشكل تهديداً مباشراً.

وقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن نقاط ضعف حرجة في الدفاعات الأوروبية، لا سيما في مخزونات الذخيرة والحاجة الماسة لقدرات متقدمة في مجال الطائرات بدون طيار (الدرونز) ومضاداتها، وأنظمة الدفاع الجوي الفعالة.

ارتفع الإنفاق العسكري في أوروبا (بما في ذلك روسيا) بنسبة 17% ليصل إلى 693 مليار دولار في عام 2024، مساهما بشكل رئيسي في الزيادة العالمية.

بلغ إجمالي الإنفاق العسكري لأعضاء الناتو 1.5 تريليون دولار في عام 2024، وهو ما يمثل 55% من الإنفاق العسكري العالمي.

يؤكد مدير شبكة الدفاع والأمن الكندية، ستيفن سيدمان، أن “غزو روسيا لأوكرانيا يدفع الناتو وأوروبا لزيادة إنفاقهم الدفاعي، بسبب القلق من العدوان الروسي وكشف الحرب لنقاط ضعف حرجة”.

وتُعد الصين، كذلك، ثاني أكبر منفق على الدفاع عالميا، وتواصل تحديث قدراتها العسكرية وتوسيعها بوتيرة سريعة.

يقول هيث إن “الجيش الصيني بات أكثر حداثة وخطورة. تحركات بكين تجاه تايوان وتصاعد النزاعات الحدودية، تدفع جيرانها مثل اليابان، كوريا الجنوبية، وأستراليا لزيادة إنفاقهم الدفاعي بشكل كبير”.

إلى جانب ذلك، أدت عوامل أخرى، أبرزها تآكل الثقة في الضمانات الأمنية الأميركية، إلى زيادة الانفاق الدفاعي العالمي على التسلح.

وأثارت تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتعلقة بتقليص الالتزامات الدفاعية تجاه الحلفاء، مخاوف جدية

“لم يعد بإمكان حلفاء واشنطن الاعتماد كليا عليها، مما يدفعهم لتطوير قدراتهم الخاصة،” يقول سيدمان.

أضف إلى ذلك السباق التكنولوجي وتأثير التقنيات الناشئة. إذ أدت التطورات السريعة في التكنولوجيا إلى سباق تسلح جديد تتنافس من خلاله الدول لامتلاك أحدث التقنيات العسكرية.

ويشمل هذا استثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي، الحرب السيبرانية، والطائرات المسيرة.

وييرى هيث أن “هذه التقنيات تقلّل من تكلفة تنفيذ الضربات ضد الأعداء ومن صعوبتها، ما يمكّن عددًا أكبر من الفاعلين من شن هجمات هجومية”.

أصخم 10 ميزانيات دفاعية

تكشف أرقام أكبر الميزانيات الدفاعية عن حجم التحول العالمي في مجال الأنفاق العسكري. وهي كالتالي:

1- الولايات المتحدة

لا تزال الولايات المتحدة القوة العسكرية الأكبر عالميا، إذ بلغ إنفاقها الدفاعي 997 مليار دولار أميركي في عام 2024، ما يمثل حوالي 37% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.

هذا الإنفاق الضخم يعكس التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على هيمنتها العسكرية ودعم عملياتها العالمية، بالإضافة إلى تحديث قدراتها لمواجهة تحديات جديدة.

2- الصين

تحتل الصين المركز الثاني بإنفاق يقدر بـ 313 مليار دولار أميركي في عام 2024، بنسبة زيادة بلغت 6% عن العام السابق.

هذا النمو المستمر يعكس طموحات الصين لتحديث جيشها وتوسيع نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وخارجها.

3- روسيا

مع استمرار الحرب في أوكرانيا، ارتفع الإنفاق الدفاعي الروسي بشكل كبير ليبلغ حوالي 148 مليار دولار أميركي في عام 2024، بزيادة قدرها 24%.

شكّل هذا الإنفاق 5.9% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي، وهي نسبة مرتفعة جدا تعكس حجم التعبئة الاقتصادية لدعم المجهود الحربي.

4- ألمانيا

في تحول تاريخي، زادت ألمانيا إنفاقها الدفاعي إلى 88.4 مليار دولار أميركي في عام 2024، لتصل للمرة الأولى منذ الحرب الباردة إلى هدف الناتو البالغ 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، ما يعكس استجابة مباشرة للغزو الروسي لأوكرانيا.

5- الهند

استمرت الهند في زيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 86.1 مليار دولار أميركي في عام 2024.
تعكس هذه الزيادة التوترات مع باكستان والصين، بالإضافة إلى رغبة الهند في تحديث قواتها المسلحة لتصبح قوة إقليمية وعالمية كبرى.

6- المملكة المتحدة

ارتفع إنفاق المملكة المتحدة الدفاعي إلى 81.7 مليار دولار أميركي في عام 2024. وتسعى بريطانيا لتعزيز دورها الأمني العالمي وتحديث قواتها لمواجهة التحديات الحديثة.

7- المملكة العربية السعودية

كأكبر منفق في الشرق الأوسط، خصصت المملكة العربية السعودية حوالي 80.8 مليار دولار أميركي للدفاع في عام 2024.
هذا الإنفاق مدفوع بالصراعات الإقليمية المستمرة، والمنافسة مع إيران، والرغبة في تعزيز القدرات الدفاعية والأمنية.

8- أوكرانيا

مع استمرار الصراع، قفز الإنفاق العسكري لأوكرانيا إلى حوالي 64.7 مليار دولار أميركي في عام 2024، وهو ما يمثل نسبة هائلة من ناتجها المحلي الإجمالي تزيد عن 37%.

هذا الرقم لا يشمل المساعدات العسكرية الكبيرة التي تتلقاها من الدول الغربية.

9- فرنسا

بلغ الإنفاق الدفاعي الفرنسي حوالي 64.6 مليار دولار أميركي في عام 2024، مع تركيز على تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية وتطوير قدراتها النووية والتقليدية.

10- اليابان

زادت اليابان إنفاقها الدفاعي بشكل كبير ليصل إلى 55.3 مليار دولار أميركي في عام 2024، مدفوعة بالقلق من النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة.

تأثير التكنولوجيا على تجنيد الجيوش

مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، الحرب السيبرانية، والطائرات بدون طيار في الحروب الحديثة، يطرح سؤال حيوي حول تأثير ذلك على سياسات تجنيد الجيوش والإنفاق على القوى البشرية.

أحد التوقعات الرئيسية هو أن التكنولوجيا ستسمح لجيوش أصغر حجماً بأن تكون أكثر فتكاً وكفاءة. فبإمكان الروبوتات والأنظمة الذكية أداء مهام خطيرة أو متكررة.

يتطلب هذا جنوداً ذوي مهارات عالية ومتخصصة في مجالات مثل البرمجة، تحليل البيانات، والأمن السيبراني، ما يؤدي إلى تحول في أولويات التجنيد والتدريب نحو جذب المواهب التقنية الشابة.

لكن، على الرغم من كل الحديث عن الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ذكّرتنا الحرب في أوكرانيا بأن الجيوش التقليدية الكبيرة، والمدفعية، ومخزونات الذخيرة الضخمة لا تزال حاسمة في الصراعات واسعة النطاق.

لم تتمكن التكنولوجيا وحدها من حسم الصراع؛ بل كانت الحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود للسيطرة على الأراضي، تنفيذ المناورات، وتحمل الخسائر، أمرا حيويا.

يؤكد الخبير ستيفن سيدمان على هذا بقوله إن “الغزو الروسي لأوكرانيا يذكر البلدان بأنهم يحتاجون إلى جيوش، وليس مجرد التكنولوجيا”.

كذلك أظهرت التجربة الأوكرانية أن التكنولوجيا ليست بديلا عن الجندي البشري، بل هي أداة تكميلية تزيد من تعقيد ساحة المعركة وتتطلب مزيدا من الجنود المدربين.

بشكل عام، لا يبدو أن التكنولوجيا ستلغي الحاجة إلى عدد كبير من الجنود بالكامل، بل ستعيد تشكيل الأدوار والمهارات المطلوبة.

فالتوقعات تشير إلى أن الجيوش المستقبلية ستكون مزيجاً من القوة البشرية المدربة جيداً، والمجهزة بأحدث التقنيات، والقادرة على التكيف مع بيئات الصراع المتغيرة.

يشير هيث إلى أن “هذه الأسلحة (التقنيات الجديدة) تُشكّل تحديًا لهيمنة المنصات العسكرية التقليدية المكلفة مثل الدبابات والسفن والطائرات المزودة بتقنيات متقدمة”.

“تحاول الدول حول العالم تكييف جيوشها التقليدية لتتمكن من استخدام ومواجهة التقنيات الجديدة بفعالية، وهي تقنيات منخفضة التكلفة لكنها شديدة الفاعلية،” يقول.

ويضيف أن “ارتفاع الإنفاق العسكري يؤثر على سياسات التجنيد في الدول المختلفة. كل دولة تتعلم دروسًا مختلفة وتبدأ من نقطة أساس مختلفة”.

تداعيات سياسية:

من أجل ضمان التوازن بين التكنولوجيا والقوى البشرية يبدو أن دول العالم بحاجة لاعتماد استثمارات ضخمة ومتواصلة، ما يزيد من الضغط على الميزانيات الدفاعية العالمية.

يؤكد الخبير ستيفن سيدمان أن “مفهوم معضلة الأمن يعني أن محاولة دولة لتحسين أمنها قد تدفع خصومها للرد بالمثل، تاركة الجميع في وضع أسوأ”.

ويوضح أن “المشكلة هنا هي أن روسيا بدأت بالفعل هذا التصعيد، لذا إذا لم تحسن الدول قدراتها، فسوف تكون أسوأ حالاً”.

وحول مدى ترجمة الإنفاق لأمن فعلي، يقول تيموثي هيث: “يمنح الإنفاق العسكري الدول قدرات على حماية نفسها ومصالحها الوطنية، وقد يؤدي ذلك في بعض الحالات إلى تحقيق الردع والاستقرار، ولكن في حالات أخرى، قد يساهم فقط في تمكين الجيوش من القتال بشكل أكثر فاعلية، ما يؤدي إلى تقليل مستوى الأمن بدلا من زيادته”.

كذلك تتطلب الزيادات الكبيرة في الإنفاق الدفاعي موافقة سياسية ودعما شعبيا، وهو ما قد يكون صعبا في الدول الديمقراطية.

ويطرح ذلك تساؤلات حول كيفية تمويل هذا الإنفاق، وما إذا كان سيؤدي إلى خفض في الإنفاق على الرفاهية الاجتماعية أو زيادة الضرائب.

يعلق ستيفن سيدمان على ذلك بالقول إن “السؤال الأساسي الكبير هو كيفية دفع ثمن هذا الإنفاق، وإذا قلصت الدول إنفاقها على الرفاهية الاجتماعية، فقد يؤدي ذلك إلى انتخابات أصعب ومزيد من التطرف”.

عصر جديد من التسلح العالمي؟

لقد أصبح تصاعد الإنفاق الدفاعي العالمي حقيقة لا يمكن تجاهلها في المشهد الجيوسياسي الراهن، فقد تجاوزت الميزانيات العسكرية مستوياتها التاريخية، مدفوعة بتغييرات عميقة في صورة التهديد العالمي، من الصراعات الإقليمية المتصاعدة إلى سباق التسلح التكنولوجي.

السؤال الآن ليس ما إذا كان الإنفاق الدفاعي سيزداد، بل كيف يمكن لهذه الزيادة أن تترجم إلى أمن حقيقي ومستدام للجميع، بدلا من تأجيج مزيد من عدم الاستقرار والصراعات.

وأيضا هل يمكن للدول أن تتعاون لتخفيف التوترات واستعادة الاستقرار، أم أننا مقبلون على حقبة من التنافس العسكري المتزايد الذي يستهلك الموارد ويزيد من مخاطر الصراع؟

يجيب تيموثي هيث على ذلك بقوله: “للأسف، من الممكن أن يستمر هذا الاتجاه إذا بقي الوضع الدولي غير مستقر أو ازداد سوءا. ولكن، إذا تمكنت الدول من التعاون معا لتخفيف التوترات واستعادة بعض الاستقرار، فقد تقل الحاجة العالمية لشراء الأسلحة”.

غسان تقي

صحفي متخصص في الشؤون العراقية، يعمل في مؤسسة الشرق الأوسط للإرسال MBN منذ عام 2015. عمل سنوات مع إذاعة "أوروبا الحرة" ومؤسسات إعلامية عراقية وعربية.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading