سجناء سوريون في لبنان: لماذا الشرع في قصر ونحن خلف القضبان؟

“أليست مفارقة قاسية؟” يسأل أحد الموقوفين السوريين في سجن رومية اللبناني بمرارة ساخرة.

“نجيب ميقاتي ونواف سلام صافحا الجولاني في قصر دمشق،” يتابع، “وأنا خلف القضبان بتهمة الانتماء إلى الجولاني. ربما لو كنت حرا، لوقفت إلى جانبه أستقبل الوفود الرسمية”.

خالد، المحكوم بالمؤبد بعد إدانته بالانتماء إلى “جبهة النصرة” ومشاركته في أحداث عرسال 2014، يقول إنه قاتل ضد حزب الله والنظام السوري، لكنه لم يؤذِ أحداً في لبنان.

“كل ذنبي أنني حلمت بالحرية”، يضيف في حديث هاتفي مع “الحرة” من السجن، حيث لا يزال ينتظر على أمل أن يُفرج عنه ويرى ابنه.

في الثامن من ديسمبر، يوم إعلان “تحرير سوريا” من نظام الأسد، شعر خالد – من خلف القضبان- بشيء يشبه الحرية. “لحظة كسر الأقفال وخروج المعتقلين من سجن صيدنايا بسوريا كانت كافية لأرى ضوءا في نفق العتمة”، يقول.

قبل هذا التاريخ، كان هو ورفاقه مستعدّين للموت على ألا يُسلّموا لنظام الأسد، أما الآن، فصاروا يحلمون بأن يُسلموا إلى دمشق.. لا سجناء بل كعائدين.

عاد ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية إلى الواجهة على خلفية التطورات السياسية التي تشهدها العلاقات بين بيروت ودمشق، منذ تشكيل حكومة جديدة في سوريا. وبينما أُدين بعض هؤلاء الموقوفين بجرائم جنائية أو إرهابية، يواجه آخرون تهما تتعلق بمواقفهم المؤيدة لـ”الثورة السورية” قبل سقوط الأسد. ويشكك مدافعون عن السجناء بعدالة المحاكمات.

ومع تحرك أهالي السجناء لإطلاق سراحهم، يحذر قانونيون من أن التأخر في معالجة هذا الملف، سواء لأسباب قانونية أو حسابات سياسية، قد يحوّله من قضية إنسانية إلى عامل ضغط داخلي وتوتر متزايد بين دمشق وبيروت.

تسريبات لتصعيد محتمل

منذ أحد عشر عاما، لم يتمكّن أبو محمد من احتضان ابنه المعتقل في سجن رومية. محمد متهم بالانتماء إلى “جبهة النصرة” ومحكوم بالإعدام، ولا يزال الطعن في الحكم قيد النظر.

لا ينكر أبو محمد التهمة. لكنه، مثل خالد، يسأل: “الشرع نفسه كان متهما بالإرهاب، وأصبح رئيساً لسوريا، فلماذا لا يزال أولادنا في السجون؟”.

قضية “معتقلي الثورة السورية” في لبنان عادت إلى الواجهة بعد تسريبات عن استعداد سوري للتصعيد في حال لم تعالج بيروت ملف من يُسمّون بـ”معتقلي الرأي” في لبنان.

وردا على التسريبات أكد مسؤولون سوريون أن دمشق تسعى لمعالجة الملف بالتعاون مع السلطات اللبنانية.

والجمعة، أعلنت الرئاسة اللبنانية، أن رئيس الجمهورية، جوزاف عون، ترأس اجتماعا “لبحث الوضع الأمني، ودراسة مسألة الاكتظاظ في السجون اللبنانية نتيجة ارتفاع عدد السجناء، بمن فيهم السجناء السوريون”.

ويرى المحامي، المحلل السياسي، أمين بشير، أن قضية السجناء السوريين “لا تُعالج بجدية، بل تُترك في الظل”.

ويقدَّر عدد الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية بنحو ألفي شخص، غالبيتهم دون أحكام قضائية، بحسب المحامي والناشط الحقوقي محمد صبلوح.

من بين هؤلاء، نحو 160 محتجزا بتهم مرتبطة بالإرهاب، خصوصا المشاركة في أحداث عرسال عام 2014، حين شنّت جماعات إرهابية بينها “جبهة النصرة” و”داعش” هجمات دموية على الجيش اللبناني، أسفرت عن مقتل عشرات الأشخاص واختطاف آخرين.

صبلوح يشير إلى أن هذا الملف جزء من ما يُعرف بـ”الموقوفين الإسلاميين”، ويشمل لبنانيين وفلسطينيين وسوريين. لكنه يدعو إلى تمييز أساسي بين فئتين:

– الجنائيون: مدانون بجرائم كالسرقة والقتل والاغتصاب، وتبدي دمشق استعداداً لاستلامهم، بل وتجهّز سجونا لذلك.

– معتقلو الرأي: أوقفوا بسبب مواقف سياسية أو انتماء للمعارضة، وهؤلاء، بحسب صبلوح، “ينبغي أن يكونوا جزءاً من مستقبل سوريا، لا أن يبقوا في الزنازين”.

انفتاح مشروط

رغم تزايد الحديث عن ضغوط سورية لتسريع ملف الموقوفين، يؤكد وزير العدل اللبناني، عادل نصار، ألا تحذيرات رسمية وصلت إلى وزارته، ويشدد على أن “لا حاجة للتصعيد” لأن لبنان “منفتح على النقاش وتوقيع معاهدة لتسليم المحكومين، باستثناء المتورطين في قتل عسكريين أو قضايا إرهاب”.

ويشير نصار إلى تقدّم في المحاكمات بعد افتتاح قاعة محكمة رومية، إذ حُوّلت نحو 180 قضية إلى المسار القضائي، لكن الإجراءات القانونية تبقى مسارا لا يمكن تجاوزه.

ويوضح المحامي محمد صبلوح أن الحكومة السورية الجديدة ألغت 42 اتفاقية تعاون قضائي سابقة، ما يعني غياب إطار قانوني فعّال حالياً للتسليم، لكن الأزمة، برأيه، “ليست قانونية بل سياسية، وتتمثل في غياب الإرادة اللبنانية”.

على الصعيد القانوني، يتمتع لبنان بولاية قضائية حصرية على الجرائم المرتكبة على أراضيه، وفق المادة 15 من قانون العقوبات، بينما تقيد المواد 31 و32 حالات التسليم إلى الخارج بشروط مشددة.

ولا يلزم اتفاق 1951 بين لبنان وسوريا أياً من الطرفين بتسليم متهمين في قضايا تمسّ أمن الدولة أو سيادتها، ما يعزز استقلالية القرار القضائي اللبناني. لكنه يترك مصير الموقوفين السوريين معلقاً في الفراغ القانوني والسياسي.

تجاهل متعمّد؟

يصف المحامي أمين بشير تصريحات وزير العدل اللبناني بأنها ناتجة عن “سوء فهم” أو “تهرّب متعمّد”.

ويتهم السلطات بتحريف جوهر القضية عبر التركيز على الجرائم الجنائية، بينما الموقوفون المعنيون “ليسوا مجرمين، بل معتقلو رأي اعتُقلوا بسبب تأييدهم للثورة السورية”.

ويحذّر بشير من خلط ملفات جنائية باتفاقيات استرداد المطلوبين، مع ملفات مبنية على اتهامات سياسية “مفبركة”. ويقول إن “تهمة الإرهاب” استُخدمت على نطاق واسع لتجريم الثوار السوريين.

“ما هو تعريف الإرهاب؟ ومن يملك الحق في إطلاقه؟ بالأمس كان مناهضو الأسد يُصنّفون إرهابيين، واليوم يشكّلون رأس السلطة في سوريا. فهل يُعقل الاستمرار في معاقبة مؤيديهم؟”.

“مقبرة بشرية”

في رومية، لا دواء ولا طعام ولا ماء صالح للشرب. لا يتوفر أي شيء سوى “الذلّ”، يقول أبو محمد، مشيرا إلى أن ابنه جريح، ويحتاج إلى علاج دائم منذ إصابته في سوريا.

الحديث عن الترحيل يعيد الكوابيس. ففي مارس 2024، وبعد طلب اللجنة الوزارية اللبنانية النظر في إمكانية ترحيل الموقوفين السوريين، حاول أربعة سجناء شنق أنفسهم، ودخل آخرون في إضراب عن الطعام. واليوم، يتساءل أبو محمد: “لماذا لا يُرحّلون إلى وطنهم بعد تشكيل حكومة جديدة في دمشق؟”.

خالد من جهته يروي: “كل شيء على حسابنا، حتى الهواء. طعام لا يصلح للحيوانات، والأسعار خيالية. والديّ توفيا وأنا مسجون، وزوجتي عادت إلى سوريا… لماذا التمسك بنا؟”.

ويصف المحامي محمد صبلوح سجن رومية بـ”المقبرة البشرية”، حيث تجاوز الاكتظاظ 250%، ويشكّل السوريون نحو 35% من النزلاء.

الإهمال الطبي، يقول، دفع ببعض السجناء إلى الانتحار.

قبل نحو أسبوعين أقدم أحد سجناء رومية، وهو سوري كان يعاني من مرض جلدي مزمن، على الانتحار.

كان موقفا منذ عامين من دون محاكمة.

تقول “المنظمة السورية للطوارئ”، إن حالة الإهمال في سجن رومية تسببت في وفاة 40 معتقلا منذ عام 2017، بينما فقد اثنان من نزلاء 2024 قواهم العقلية بالكامل.

يقول أبو محمد إن المرضى النفسيين يحتجزون في “المبنى الأزرق”، حيث “يموتون ببطء”.

عقبة قانونية أم سياسية؟

يرى المحامي أمين بشير أن الاهتمام السوري الرسمي بملف الموقوفين يشكّل فرصة نادرة للبنان لبناء علاقة “ندّية” مع دمشق، بعيداً عن منطق الوصاية الذي حكم العلاقة لعقود قبل سقوط الأسد.

ويعتقد بشير أن الظرف الحالي “مفصلي” لتصحيح المسار، داعيا إلى خطوات قانونية واضحة لحسم الملف.

لكن المحامي محمد صبلوح يرى أن “القانون مجرد ذريعة”. فحين وُجدت الإرادة السياسية، عُقدت صفقات تبادل حتى مع “جبهة النصرة”.

“من قتلوا جنودا لبنانيين خرجوا من لبنان بباصات مكيّفة، فيما زُجّ مئات آخرون في السجون بتهم إرهاب مفبركة، دون أن يكونوا شاركوا في أي قتال”، يقول صبلوح. في إشارة إلى صفقة بين حزب الله و”جبهة النصرة” أفضت عام 2017 إلى تبادل أسرى وخروج المقاتلين واللاجئين من عرسال إلى إدلب، بينما بقي الموقوفون في لبنان يدفعون الثمن.

وحذّر صبلوح مما وصفها بـ”الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب”، مشيرا إلى تقارير حقوقية عن تعذيب سجناء على أيدي قوات الأمن اللبنانية.

ويذكّر بحالة بشار عبد السعود، اللاجئ السوري الذي أشارت منظمة العفو الدولية إلى إنه قضى تحت التعذيب في لبنان عام 2022.

ويتهم بشير ما سماها “الدولة العميقة” بعرقلة أي تقارب لبناني – سوري، وقال إن “حزب الله، الممسك بمفاصل القرار منذ عقود، لا يزال يُبقي العلاقة مع دمشق رهينة لحساباته الأمنية والسياسية”.

تصعيد شعبي على الحدود

في 11 يوليو الجاري، نظّم أهالي عدد من المعتقلين السوريين في سجن رومية اللبناني وقفات احتجاجية انطلقت من العاصمة دمشق باتجاه معبر جديدة يابوس – المصنع الحدودي، حيث عمدوا إلى إغلاق الطريق بشكل مؤقت للضغط على الجهات المعنية من أجل الإفراج عن أبنائهم.

وتزامنت هذه التحركات مع احتجاجات مشابهة شهدها ريف حمص الغربي، ولا سيما عند معبر جوسية، بالإضافة إلى تجمعات احتجاجية أخرى في بلدتي القصير وقلعة الحصن.

وتحت وهج الشمس الحارقة، بين المحتجين، وقف صبي عمره يقارب عشر سنوات مطالبا بالإفراج عن أبيه.

كان طفلا عندما اعتقل والده خالد، وأودع في سجن رومية اللبناني.

الصبي لا يستطيع أن يتخيل صورة أبيه. والأب لا يحمل في قلبه سوى صورة رضيع.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading