قبل ما يزيد قليلا عن عقد من الزمان، أدت ثورات ما سُمّي بـ”الربيع العربي” إلى صعود حركات إسلامية إلى مراكز السلطة في عدد من الدول العربية.
لم تكن دول الخليج مسرحا لحراك شعبي، لكنها وجدت نفسها في مواجهة ما اعتبرته “عدوى سياسية” تهدد أوضاعها الداخلية.
ردُ الفعل الخليجي الاحترازي كان حازما.
إجراءات مشددة ضد الإسلاميين. حظر وملاحقة، وتضييق على المساحات العامة التي كانت متاحة للحركات الإسلامية على مدى عقود.
لكن هذه السنين، يظل السؤال معلقا: هل نجحت دول الخليج بسياساتها تلك في تحجيم الإسلام السياسي فعلا؟ أم أن هذه التيارات تعلّمت التكيف مع الواقع الجديد؟
من التسامح إلى الحذر!
يرى الدكتور علي الخشيبان، الباحث السياسي السعودي، أن العلاقة بين الخليج والحركات الإسلامية لم تبدأ من منطلق سياسي مباشر، بل انطلقت من طبيعة المجتمعات المحافظة التي وفّرت بيئة حاضنة لأفكار تلك الحركات.
“من المهم الإشارة إلى أن دول الخليج لم تكن لديها علاقات مباشرة مع الحركات الإسلامية بحيث يمكن أن تُصنف في سياق سياسي واضح. البيئة الخليجية بيئة إسلامية في ما يخص المجتمعات، وهذا ما مكن الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها من أن تجد لها فضاء مجتمعياً أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه بيئة قابلة لاستزراع وقبول الأفكار الإسلامية، بغض النظر عن قدرة تلك الشعوب على تكوين حركات بمعناها الفعلي أو حتى دعمها كمنهج ثوري.
ويضيف الخشيبان أنه “بمجرد بداية الربيع العربي وظهور الوجه الثوري للحركات الإسلامية، بدأت في دول الخليج المراجعات، ووجّهت الدول الخليجية الكبرى نقداً حاداً للحركات الإسلامية”.
ومع أن الموقف الخليجي بدا موحدا آنذاك، كان هناك انقسام، بحسب ما يرى الخشيبان، بشأن “الكيفية التي يمكن من خلالها تفسير التحول المفاجئ للحركات الإسلامية وبروز الوجه الثوري بعد أحداث الربيع العرب”.
احتواء إعلامي وتشديد رقابي
لم يكن الموقف السياسي وحده العامل الحاسم.
إذ أدت الهيمنة الإعلامية دورا كبيرا في إضعاف خطاب الإسلاميين، يوضح الدكتور محمد الوهيب، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة الكويت.
“لا أشك للحظة في أن السياسات الحكومية في الخليج قد أثرت بشكل مباشر على قدرة الإسلاميين على التأثير في الرأي العام، لا سيما في ظل هيمنة الدولة على وسائل الإعلام التقليدية، والتضييق المتزايد على منصات التواصل الاجتماعي، ولكن ينبغي أن نكون حذرين بعض الشيء في تحديد مفهوم ‘دول الخليج’ في هذا السياق، فلا زالت بعض الدول تمارس تمويلها السخي لبعض التيارات الإسلامية وبخاصة الإخوان المسلمين”.
“مع القيود التقنية والرقابية على مواقع التواصل، تراجعت فاعليتهم، خصوصا بعد تصنيف بعض الجماعات كـ’إرهابية’، ما جرّم التفاعل معها أو حتى التعاطف معها، ولكن من المهم أن نعي أن هذه الخطابات الإسلاموية لا تموت بالرقابة وتشديد العقوبات، فهي في النهاية أفكار ولها من يؤمن بها إيمانًا عميقًا”.
“من هنا بدأت الحركات الإسلاموية تجد طريقها عبر قنوات بديلة أو من خلال شخصيات مؤثرة تتبنى خطابًا غير مباشر أو ثقافي الطابع. إلا أن الأثر الذي كانوا يمارسونه في العقدين الماضيين تراجع بوضوح، لصالح خطاب الدولة ومشاريعها السياسية والدينية، التي تقدم نفسها كبديل ديني ‘معتدل’ ومراقَب” يضيف الوهيب.
من الاحتواء إلى القطيعة
تختلف دول الخليج في طريقة التعامل مع الإسلام السياسي.
فبينما ينظر بعضها إلى هذه الحركات كـخطر وجودي، تميل أخرى إلى الاحتواء المؤسسي.
يقول الدكتور الوهيب إن “كل أشكال الإسلام السياسي في نسختها السنية أو الشيعية هي حركات عابرة للحدود السياسية بالتعريف، والحال هو أن دول الخليج تختلف في التعامل معها باختلافات السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الدول. فالإخوان المسلمون في البحرين هم في رعاية كنف الدولة بالنظر لتجربتها وسياقها الخاص، وهم أعداء الدولة في الإمارات”.
و”في بعض دول الخليج الأخرى، حتى وإن اختلفت آراؤهم مع السياسات الحكومية، يُنظر إليهم عادة كجزء من النسيج الاجتماعي الوطني، وعلى أنه يمكن احتواؤهم أو مراقبتهم داخل الإطار المؤسسي للدولة. هذه الدول الخليجية تميل إلى إدارة الإسلام السياسي المحلي، إلى أي مدى بالامكان اعتبار ذلك تقديراً جيداً؟ لا أدري، ولكن للدول تقديراتها،” يضيف.
لكن الدكتور علي الخشيبان يقدم وجهة نظر أخرى:
“الحقيقة الراسخة تقول بعدم وجود دليل على أن تلك الحركات قد تمكنت من تحقيق نفوذ في تلك المؤسسات بالشكل الذي يبعث على القلق أو يهدد الاستقرار، وكل ما يقال عن وجود تلك الحركات في تلك المؤسسات كان مختلطًا بالفضاء الديني للدول الخليجية، حيث كل السكان من المسلمين، وهذا يمنح الفرصة لأي خطاب يعتمد الإسلام عنوانًا له أن يبقى ويعيش في تلك المجتمعات”.
ويتابع “حدث التحول المقلق لهذه الحركات عندما أظهر الربيع العربي تحول هذا المد الفكري إلى مد ثوري يهدد الاستقرار، وهنا تنبّهت دول الخليج إلى ضرورة تغيير المعادلة والبحث عن وسائل أكثر فاعلية في تقييم هذه الحركات وطريقة وآليات وجودها المجتمعي”.
رغم تراجع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في العقد الأخير، يرى الخشيبان أنها لا تزال تشكّل مصدر قلق حقيقي، ليس فقط لدول الخليج بل للعالم العربي والإسلامي بأسره، نظراً لقدرتها على إعادة التشكل والظهور عبر قنوات مختلفة. ويشير إلى أن سلوك الجماعة خلال الربيع العربي أظهر ميولاً لزعزعة الاستقرار، ما يبرّر استمرار التعامل معها بريبة. ورغم محاولاتها تجريب خطاب جديد، تدرك الجماعة أن العودة إلى موقعها السابق باتت شبه مستحيلة.
خطاب قديم بأدوات جديدة
يعتقد الدكتور محمد الوهيب إن الحركات الإسلامية لا تزال تُشكّل جزءًا مهمًا من المعارضة السياسية في الخليج، ولو بأشكال جديدة أو غير تقليدية.
ويؤكد أن الحركات الإسلامية، خصوصا في الخليج، ليست وافدة أو هامشية، بل نمت داخل المجتمعات المحلية، وتجذرت في شبكات التعليم، العمل الخيري، والنشاط الدعوي. هذا يمنحها شرعية اجتماعية يصعب تجاهلها ويبين قدرتها على التأقلم.
يقول: “مع تزايد الضغوط، ستجد كثيرا من الإسلاميين انتقلوا من العمل الحركي الصريح إلى العمل الرمزي، الثقافي، أو الفردي عبر وسائل التواصل، خاصة عبر رموزهم الدينية التي حتى وإن كانت في المنفى فإن لها جمهورها الواسع. ورغم التضييق، فهم يعيدون إنتاج خطابهم في قوالب جديدة، أكثر ملاءمة للبيئة الحالية، مما يسمح لهم بالبقاء كصوت معارض”.
وفي ظل سعي بعض الحكومات الخليجية إلى إنتاج خطاب ديني بديل للخطاب الإخواني “الثوري”، يشدد الوهيب أن هذا المسار طويل ومعقّد.
“خلق البديل لهذه التيارات الإسلاموية ليس سهلاً أبدًا والقضاء عليه عملية شاقة وستستغرق أجيالًا كي تأتي أكلها ونراها مثمرة في الواقع،” يقول.
ويتهم الوهيب “التيارات الإخوانية ومن لف لفها في تنمية الحس الأخلاقي … وعدم التردد استخدام هذا الإسلام السياسي للعنف، وعدم احترام الاختلافات الدينية والمذهبية”.
ويدعو إلى فضح “كل هذه جرائم” إعلاميا والتحذير منها.
ويرى الهويب أن على “دول الخليج من أن تساهم وتستثمر في إنتاج تدين رسمي “معتدل” يبتعد عن الخطاب الإخواني الثوري في جوهره، ويقدم خطابًا دينيًا يركّز على طاعة القانون، على الوقوف إلى جانب الاستقرار ومكافحة التطرف والتركيز على الحوار بوصفه الأداة الفلسفية-الدينية-التربوية المقبولة للتغيير”.
سكينة المشيخص
كاتبة و باحثة و مقدمة برامج سعودية


