تنتقل المواجهة بين الولايات المتحدة والصين إلى أعماق البحار، في سباق للسيطرة على سوق المعادن الحيوية.
في منطقة كلاريون-كليبرتون بالمحيط الهادئ، تهتزّ المياه تحت هدير معدات عملاقة تهبط ببطء إلى أعماق تتجاوز ثلاثة آلاف متر. هناك، تمتد أذرع معدنية تحرّك طبقات من القاع لم تمسّ منذ ملايين السنين، بحثا عن عُقد لامعة بحجم كرة الغولف، غنية بالنيكل والكوبالت والمنغنيز.
هذه المعادن النادرة باتت الوقود الخفي لعصر البطاريات والسيارات الكهربائية والتقنيات المتقدمة، وصولًا إلى الاستخدامات الدفاعية الحساسة.
ما يُعرف اليوم بـ”الذهب الأزرق” للقرن الحادي والعشرين – وعلى رأسه الكوبالت والمنغنيز – يفتح فصلا جديدا في سباق النفوذ العالمي.
فالمواجهة بين واشنطن وبكين لم تعد تقتصر على الجانب الاقتصادي والسيطرة على سلاسل توريد المعادن في المستقبل، بل تتجاوز ذلك إلى الحسابات الاستراتيجية والأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وسط مخاوف متزايدة من تداعيات بيئية على المياه الدولية.
يؤكد الجيولوجي، الباحث في مؤسسة “راند”، توم لاتوريت، أن هذا المسعى بالنسبة للولايات المتحدة يُعد جزءا من جهود أوسع لتأمين إمدادات المعادن الحيوية من خارج سلاسل التوريد التي تهيمن عليها الشركات الصينية.
ويشير في تصريحات لـ”الحرة” إلى أن التعدين في أعماق البحر يُعد أيضا فرصة تجارية واعدة.
وبالنسبة للصين، “فهو يمثل فرصة لتعزيز سيطرتها على إمدادات الموارد المعدنية الحيوية، وزيادة إمدادات المواد الخام للقدرات المحلية في مجال المعالجة التي لا تُستغل بالشكل الكافي”.
وتقوم الاستراتيجية، بالنسبة للجانبين، على تعزيز التحالفات مع دول جزر المحيط الهادئ، وتوسيع النفوذ التجاري وربما العسكري في المناطق البحرية الواقعة خارج نطاق السيادة الوطنية، إلى جانب تطوير ونشر تقنيات متقدمة للعمل في أعماق البحار.
المحيط الهادئ مسرح الصراع
يتزايد الطلب العالمي على المعادن الحيوية بوتيرة غير مسبوقة.
وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية (IEA) إلى أن الطلب على معادن مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل سيرتفع ما بين أربعة إلى ستة أضعاف بحلول عام 2040.
في عام 2024، بلغ الإنتاج العالمي من العناصر الأرضية النادرة نحو 390 طنا متريا، مقارنة بنحو 100 طن متري فقط قبل عقد من الزمن.
في هذا السباق، تتصدر معادن مثل النيكل، الكوبالت، المنغنيز، والنحاس قائمة المواد الأكثر طلبا، وجميعها تدخل بشكل أساسي في صناعة البطاريات والسبائك عالية الأداء.
استخدامات المعادن الحيوية
الكوبالت: بطاريات قابلة لإعادة الشحن للسيارات الكهربائية والإلكترونيات المحمولة، إضافة إلى أجهزة استشعار عالية الأداء في الصناعات العسكرية.
النحاس: توربينات الرياح، المركبات الكهربائية، الذخائر، الهندسة البحرية، وأجزاء فضائية مقاومة للحرارة.
النيكل: الفولاذ المقاوم للصدأ، بطاريات السيارات الكهربائية، وأجهزة استشعار متقدمة للاستخدامات العسكرية.
المنغنيز: بطاريات، فولاذ مقاوم للصدأ، وسبائك فولاذية تدخل في تصنيع منصات عسكرية.
العناصر الأرضية النادرة (REEs): توربينات الرياح، المحركات الكهربائية، أنظمة الرادار والسونار والتوجيه بالليزر، أنظمة الدفع المتقدمة للأسلحة الموجهة، والطائرات المسيّرة.
تحدي البنية التحتية
يمثل التعدين في أعماق البحار بوابة للوصول إلى هذه المعادن، التي أصبح تأمينها من المناجم الأرضية أكثر صعوبة بسبب الاضطرابات الجيوسياسية، والمخاطر البيئية، وضعف سلاسل التوريد.
تسيطر الصين حاليا على ما بين 60% و70% من الإنتاج العالمي للمعادن الحيوية، وتستحوذ على 85% من قدرات تكريرها، ما يمنحها ورقة ضغط قوية على الصناعات الأميركية الحساسة، من السيارات الكهربائية إلى الطاقات المتجددة والتقنيات الدفاعية.
ترى كل من الولايات المتحدة والصين أن السيطرة على سلاسل توريد هذه المعادن مسألة ترتبط بالأمن القومي.
بالنسبة لواشنطن، فإن الاعتماد على مصادر أجنبية، خصوصا الصين، يُعد تهديدا مباشرا للاستقرار الاقتصادي والاستعداد العسكري، نظرا للدور الحاسم لهذه المعادن في أنظمة الأسلحة المتقدمة وغيرها من التطبيقات الدفاعية.
أما بكين، فتهدف إلى ترسيخ موقعها كلاعب رئيسي في سباق الموارد، مستفيدة من التعدين البحري لتعزيز علاقاتها مع دول جزر المحيط الهادئ، حيث اشتدت المنافسة مع الولايات المتحدة.
وتدرك الصين أن السيطرة على الموارد البحرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالسيطرة على الجغرافيا. ولهذا، تسعى إلى توسيع شراكاتها مع دول مثل فيجي، بابوا غينيا الجديدة، وجزر سليمان، وهي دول تتمتع بمناطق اقتصادية خالصة شاسعة تمنحها حقوقا واسعة على الثروات البحرية، وتحوّلها إلى بوابات استراتيجية مهمة للموارد والنفوذ العسكري.
ومن بين المناطق الأكثر أهمية اليوم، منطقة كلاريون-كليبرتون في المحيط الهادئ، الواقعة بين هاواي والمكسيك. هذه المنطقة الغنية بالمعادن تستضيف بالفعل عقود استكشاف ممنوحة لـ17 شركة تعدين في أعماق البحار، وتغطي مناطق الاستكشاف المشتركة فيها مساحة تقارب مليون كيلومتر مربع.
بالنسبة إلى الصين، فإن طموحاتها تتجاوز البعد الاقتصادي. تقول ليزا ليفين، الأستاذة الفخرية في علم المحيطات البيولوجية في جامعة كاليفورنيا – سان دييغو.
“الولايات المتحدة ترغب في الاستقلال عن الصين، التي تمتلك إمكانية الوصول إلى بعض المعادن النادرة والعناصر الأرضية النادرة اللازمة لهذه الصناعة،” تقول.
وتضيف ليفين لـ”الحرة”: “هذا يعود جزئيا إلى الطلب المتوقع على بطاريات السيارات الكهربائية والثورة الخضراء، وإلى حد كبير إلى أسباب جيوسياسية”.
إلى جانب المكاسب الاقتصادية، تمنح هذه الشراكات بكين موطئ قدم عسكريا محتملا في قلب المحيط الهادئ، في منطقة تراها واشنطن حيوية لأمنها القومي، وفقا لتحليل نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الثلاثاء.
وأشار التحليل إلى أن أكثر ما يثير القلق لدى الغرب هو تطوير الصين لتقنيات مزدوجة الاستخدام، مثل المركبات الذاتية تحت الماء، التي يمكن استغلالها لأغراض تجارية وعسكرية في الوقت نفسه.
وأوضح التحليل أن نشر هذه المعدات تحت غطاء التعدين سيجعل من الصعب التحقق من طبيعة أنشطة الصين، وهو ما يثير مخاوف حلفاء واشنطن التقليديين مثل أستراليا ونيوزيلندا.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز حضورها في المنطقة عبر اتفاقيات جديدة، من بينها الشراكة الأخيرة مع جزر كوك التي أُعلن عنها مطلع أغسطس. وتُقدّر هيئة معادن قاع البحار في جزر كوك أن مياهها تحتوي على نحو 6.7 مليار طن متري من مخزون المعادن، بينها المنغنيز والكوبالت والنيكل والتيتانيوم والعناصر الأرضية النادرة.
وقدّرت الهيئة أن هذه المخزونات يمكن أن تنتج وحدها 20 مليون طن متري من الكوبالت سنوياً. وتختم ليفين بالقول إن “الولايات المتحدة تُنشئ تحالفات جديدة خاصة بها (مثلا مع جزر كوك) لمواجهة شراكات الصين”.
سلاسل التوريد
حتى الآن، لم تبدأ أي دولة التعدين التجاري في أعماق البحر.
لكن الصين تملك تفوقا كاسحا في مرحلة التكرير والمعالجة، وهي المرحلة التي تضيف أعلى قيمة اقتصادية للمعادن.
بناء مصانع تكرير ومعالجة يستغرق سنوات طويلة ويحتاج إلى استثمارات ضخمة، كما أنه ملوث بيئيا، ما يجعل أغلب الدول الغربية تتردد في تطويره محليا، وفقا لخبراء.
يقول أستاذ علوم المحيطات في جامعة كاليفورنيا دوغلاس ماكولي إن “تفوق الصين ارتكز بشكل أساسي على تطوير بنية تحتية واسعة لمعالجة المعادن الخام وتحويلها إلى معادن نقية قابلة للاستخدام الصناعي”.
ويضيف في حديث مع “الحرة” أن “بناء مثل هذه البنية يستغرق سنوات أو حتى عقودا، كما أنه مضر بالبيئة”.
وهذا يعني أنه حتى لو حصلت الولايات المتحدة على كميات كبيرة من المعادن من البحر، فإنها ستظل مضطرة لإرسالها إلى الصين للمعالجة، ما لم تُسرّع في بناء قدراتها المحلية.
معضلة واشنطن الأخرى
من الناحية القانونية، تُعتبر اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) المرجعية الأولى للتعدين في أعماق البحار.
الصين صادقت على هذه الاتفاقية. وحاليا هي أكبر مستفيد من تراخيص الاستكشاف الممنوحة عبرها، حيث تمتلك 5 من أصل 31 ترخيصًا ممنوحا على الصعيد العالمي، وتسعى لتشكيل الأطر التنظيمية بما يخدم مصالحها.
في المقابل، لم توقع الولايات المتحدة على الاتفاقية، ما يقيد نفوذها في الهيئة الدولية لقاع البحار إلى صفة مراقب فقط.
هذا الغياب يضعف قدرة واشنطن على التأثير في الهيئة الدولية لقاع البحار، التي تضع القوانين المنظمة لعمليات الاستخراج، وفقا لماكولي.
كذلك تثير عمليات التعدين في أعماق البحار مخاوف بيئية ضخمة، على الرغم من أنها ما زالت تجريبية ولم تتحول إلى نشاط تجاري واسع حتى الآن.
تُستخدم في عمليات التعدين مركبات ضخمة تشبه الجرافات العملاقة، وتُدار عن بعد، يجري إرسالها لقاع البحر لجمع الصخور المعدنية الصغيرة.
ويحذر العلماء من أن عمليات الحفر والجرف قد تؤثر على التنوع البيولوجي، وتدمر مواطن الكائنات البحرية النادرة، وربما تُطلق كميات ضخمة من الكربون المخزن في الرواسب.
تقول ليزا ليفين إن “هناك احتياطيات كبيرة من المعادن على اليابسة في غرينلاند وأوكرانيا مثلا، وبالتالي يُضطر المجتمع الدولي إلى اتخاذ قرارات بشأن ما إذا كان يرغب في تضحية غير ضرورية بجزء كبير من أعماق البحار”.
وسط هذا السباق، تظل أعماق البحار، آخر البيئات الطبيعية البكر، المهددة، على الكوكب.
والسؤال هنا: هل يمكن للعالم أن يوازن بين الحاجة إلى المعادن والحفاظ على كنوز المحيطات؟
أم أن سباق القوى الكبرى سيفرض كلفة بيئية سيدفعها الجميع لاحقا؟

غسان تقي
صحفي متخصص في الشؤون العراقية، يعمل في مؤسسة الشرق الأوسط للإرسال MBN منذ عام 2015. عمل سنوات مع إذاعة "أوروبا الحرة" ومؤسسات إعلامية عراقية وعربية.


