الحل في غزة هو …

في أواخر فبراير 2025، شهدت الأوساط السياسية والاقتصادية الفلسطينية خطوة غير مألوفة من رجل أعمال بارز يدعى سمير حليلة.

أعلن حليلة، المولود في الكويت عام 1957 والحاصل على الماجستير في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية في بيروت، عن استقالته من منصبه كرئيس لبورصة فلسطين، ومن كل أدواره في الشركات التابعة لعائلة المصري ذات النفوذ الاقتصادي الكبير في الضفة الغربية وقطاع غزة.

لم تكن هذه مجرد استقالة عادية، بل كانت إشارة واضحة إلى أن الرجل يعد نفسه لمهمة ما، تكشّفت لاحقاً: حكم غزة في مرحلة ما بعد الحرب.

تلك كانت البداية لحكاية “اليوم التالي” في القطاع بعد حرب مستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.

لم تكن خطوة حليلة شخصية بالكامل، بل جاءت بعد مكالمة هاتفية غريبة من شخصية مثيرة للجدل، “اللوبييست” الإسرائيلي الكندي آري بن مناشيه.

يصفه حليلة بأنه متعاقد مع البنتاغون والبيت الأبيض، وبأن له ماضٍ في العمل للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وتهريب الأسلحة لإيران في فترة الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات.

يروي حليلة أن بن مناشيه اتصل به قائلاً: “ابحث عن اسمي في جوجل ودعنا نلتقي بعدها”.

سأله حليلة عن السبب، فأجاب بن مناشيه أنه كُلف من الإدارة الأميركية (إدارة الرئيس جو بايدن) بالبحث عن أسماء مقترحة لقيادة المرحلة الانتقالية في غزة، وبعد مقابلات أجراها مع العشرات من المرشحين، وقع اختيار بن مناشيه على حليلة كأفضل مرشح لهذا الدور ـ هذه الرواية يقدمها حليلة نقلا عن بن مناشيه، ولم تأكدها الإدارة الأميركية.

حليلة يؤكد في مقابلة مع “الحرة” أنه “على اتصال يومي مباشر” مع مسؤولين أميركيين عبر بن مناشيه. ويقول إن إدارة الرئيس ترامب أعطت زخما للمبادرة التي بدأت في عهد بايدن.

رغبة عباس وشروط نتانياهو

لم يمر طرح اسم حليلة دون رد فعل، بل قوبل بهجوم قاسٍ من الرئاسة الفلسطينية التي وصفت موقف حليلة بأنه “مخزٍ” وتصريحاته بـ”الأكاذيب”، متهمة إياه بـ”الالتفاف على الموقف الرسمي لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية”.

يعكس هذا البيان غضب رئيس السلطة محمود عباس من طرح اسم حليلة.

عباس يريد ان تكون إدارة قطاع غزة جزءا من السلطة الفلسطينية، غير منفصل عن الضفة الغربية، التي تدير السلطة أجزاء منها بالفعل.

وهو ما يرفضه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. رفض نتانياهو علنا أن تتولى السلطة الفلسطينية التي يقودها عباس إدارة غزة بعد الحرب.

هي معضلة تحاول خطة “اليوم التالي” أن توفر مخرجا منها. وهذه الخطة، وفق حليلة، “فرصة للحوار” حول الشروط المطلوبة لنجاح حكم غزة بعد الحرب.

يرى حليلة نفسه “مدير مشروع” لإعادة بناء غزة، لا حاكماً سياسياً بالمعنى التقليدي. ويركز في رؤيته على المساعدات الإنسانية، وإعادة الإعمار، وإعادة إرساء النظام والقانون.

ويشير إلى أن خلفيته في عالم الأعمال تُعد ميزة كبيرة لهذا الدور، خاصة وأن غزة تواجه فاتورة إعادة إعمار ضخمة تُقدر بـ 53 مليار دولار.

وقد وصفه الدبلوماسي الأميركي السابق جيمس جيفري، عندما سألته “الحرة” عن رأيه بطرح اسمه، بأنه “أفضل حل ممكن”.

يرى جيفري أن ترشح حليلة يمثل حلاً ذكياً يتجاوز الخطوط الحمراء الإسرائيلية المتمثلة في رفض عودة السلطة الفلسطينية بشكل مباشر لحكم غزة.

ولأن حليلة ليس مسؤولاً حاليا في السلطة الفلسطينية، لكنه كان وزيرا في عهد سابق، فإن علاقاته العميقة تمنحه الشرعية التي يحتاجها من الدول العربية.

جيفري أعدّ ورقة لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تحدث فيها عن سيناريوهات ما بعد الحرب في غزة.

وكانت منظمات غير حكومية ومسؤولون أجانب قدموا خططا للإجابة عن مصير غزة بعد الحرب.

تحديدا، هناك ثلاث خطط يناقشها جيفري: خطة أعدها خبراء أميركيون وإسرائيليون ونشرها مركز ويلسون، وخطة شركة راند، ومجموعة من المبادئ أصدرتها الإمارات العربية المتحدة.

تتفق هذه الخطط عموماً على أن الدور الدبلوماسي والرقابي للولايات المتحدة سيكون ضرورياً للغاية لأي خطة حكم انتقالية.

تتصور خطة ويلسون، وهي الأكثر شمولاً، إنشاء “قوة متعددة الجنسيات” بقيادة عربية، تشرف عليها مجموعة اتصال دولية بقيادة أميركية (غير رسمية إذا لزم الأمر).

أما خطة راند فتتبنى نهجاً مشابهاً، وتقترح إنشاء قوة أمنية مؤقتة متعددة الجنسيات.

ويدعو اقتراح الإمارات إلى تشكيل “بعثة دولية مؤقتة”.

تصر إسرائيل على أنها ستحتاج إلى لعب دور في الإشراف الأمني في غزة بعد الانسحاب، بما في ذلك الحق في اتخاذ إجراءات عسكرية ضد التهديدات المباشرة.

وفي 8 أغسطس، أعلنت إسرائيل فرض “السيطرة” المؤقتة على كامل قطاع غزة، وأصدرت مجموعة من المبادئ تشمل إشراف الدول العربية على إدارة القطاع بعد انتهاء الوجود الإسرائيلي. تُعد هذه المرة الأولى التي تتخذ فيها الحكومة الإسرائيلية موقفاً رسمياً بشأن قضية الحكم في غزة ما بعد الحرب.

على الرغم من أن هذه المبادئ لم تتضمن سوى القليل من التفاصيل، فقد أكدت على رغبة إسرائيل في ممارسة نوع من الإشراف الأمني، ومنع حماس أو السلطة الفلسطينية من إدارة غزة، فضلاً عن نزع السلاح من القطاع.

تقسيم، لجوء، أم إعمار؟

يشدد حليلة في حديثه مع “الحرة” على أن المسألة ليست فيمن يحكم، بل في توفير “شروط النجاح، وإلا فالمأساة مستمرة”، على حد تعبيره.

ومن أهم هذه الشروط وجود قوة دولية وعربية “قادرة على منع إسرائيل من دخول غزة مرة أخرى”، وإنهاء الحصار، وتوفير التمويل لإعادة الإعمار.

ويؤكد أن القرار النهائي لا يعود لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بل للرئيس ترامب، وأن هناك حاجة “لإرادة أميركية ودولية واضحة” لإنهاء الحرب بصفقة شاملة، ويوضح أنه ليس “مرشحاً مفتوحاً” لأخذ الدور تحت أي ظروف، وأنه لن يقبل “عملية انتحارية” ستفشل من البداية.

لكن الطريق إلى غزة ليس سهلاً، فالعقبات كثيرة واللاعبون لديهم مصالح متضاربة.

إسرائيل مثلاً، لن تكون متحمسة لسيناريو تسليم السلطة بسهولة.

يرى يوسي كوبرفاسر، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق، أن أي خطة سلام لا يمكن أن تنجح دون أن تحتفظ إسرائيل بـ “سيطرة أمنية عليا” على القطاع.

يشدد كوبرفاسر على ضرورة أن يحافظ الجيش الإسرائيلي على وجوده في محور فيلادلفيا لمنع تهريب الأسلحة من مصر، وأن يسيطر على المجال الجوي والبحري، ويؤمن الحدود.

ويقول بوضوح إن حماس يجب أن “تُزال تماماً من السلطة وينزع سلاحها”. ويضيف أن الغزيين يجب أن يقتنعوا بأن حماس “لن تعود”.

وعند سؤاله عما إذا كان هذا يعني استمرار وجود الجيش الإسرائيلي على الأرض، أجاب كوبرفاسر بـ”نعم”.

يرفض كوبرفاسر فكرة تولي حكومة جديدة المسؤولية مباشرة باعتبارها “تمنيات”. ويذهب إلى أبعد من ذلك، مقترحاً أن إسرائيل قد لا تقبل بحليلة في الوقت الحالي.

ما الحل إذا؟

يعتقد كوبرفاسر أن حكم غزة، بعد إنهاء حماس تماما، قد يكون عبر تقسيمها إلى مناطق صغيرة يحكمها زعماء محليون لا يثيرون حفيظة إسرائيل. ويعتقد أن هذه القيادات المحلية يجب أن يتم تعيينها من قبل هيئة دولية، ولكن “يجب أن تتم الموافقة عليهم من قبلنا”، أي من قبل إسرائيل، وأن يكونوا بلا “ماضٍ إرهابي”.

من جانبه، يعبر الدبلوماسي المخضرم إليوت أبرامز في حديث مع “الحرة” عن إحباطه من غياب “خطة جدية حقيقية” من الأطراف الرئيسية: إسرائيل، السلطة الفلسطينية، وواشنطن.

يؤيد أبرامز فكرة هيئة دولية، لكنه يصر على أن الأمن يجب أن يعتمد على قوة شرطة فلسطينية يتم تدريبها، وقوات أمنية من الدول العربية.

هناك مبادرة مصرية بهذا الخصوص للجنة مؤلفة من ١٥ عضواً. سمير حليلة يقول إنها قد تكون الحكومة التي يُراد له ان يترأسها.

أبرامز يضيف إلى الحكاية فكرة مثيرة للجدل، حيث يدافع عن فكرة خروج سكان غزة لأسباب إنسانية، مؤكداً أن الغزيين يجب أن يُسمح لهم بالفرار من الحرب، تماماً مثلما حدث مع ملايين السوريين والأوكرانيين. ويرفض الانتقادات التي تعتبر ذلك “تهجيراً قسرياً”، مؤكداً أن لهؤلاء اللاجئين “الحق المطلق في العودة إلى ديارهم”، عندما تنتهي الحرب.

رامي الأمين

كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading