عندما يُذكر التطبيع مع إسرائيل، يتبادر إلى الذهن مباشرةً الخليج أو المشرق العربي.
فالخطاب العام حول “اتفاقات أبراهام” التي مرت ذكراها الخامسة، الاثنين، جعل من المنطقة العربية، خصوصا دول الخليج، الساحة الأساسية لهذه التحولات الدبلوماسية.
لكن ثمة مشهد آخر مواز يتشكل بعيدا عن الأضواء في أوروبا الشرقية والقوقاز.
هناك، في فضاءٍ جغرافي يجمع بين التاريخ العثماني والتأثير الأوروبي والإرث السوفيتي، نجد دولا ذات أغلبية مسلمة مثل أذربيجان وكازاخستان اوزبكستان وألبانيا وكوسوفو، تقيم بالفعل علاقات مع إسرائيل بدرجات متفاوتة.
بعضها وصل إلى فتح سفارة في القدس، مثل كوسوفو، وبعضها الآخر نسج علاقات استراتيجية في مجالات الطاقة والأمن والاستخبارات.
لكن ما يميز هذه البلدان بالفعل أنها تحركت مبكرا نحو “التطبيع الشعبي” من خلال إشراك المجتمع المدني، والاستفادة من التاريخ المشترك (مثل إنقاذ اليهود في ألبانيا/البوسنة خلال الحرب العالمية الثانية) ومبادرات سياحة وتجارية وحملات لتحسين الرأي العام.
هذا البعد الرمزي يفتح الباب أمام ضغوط غير مباشرة على الدول الرافضة للتطبيع، وقد يؤدي مع الوقت إلى تغييرات تدريجية، خاصة إذا نجحت هذه النماذج في تحقيق فوائد اقتصادية وسياسية ملموسة لشعوبها.
“توفر اتفاقات أبراهام، اعترافا دبلوماسيا فوريا، وأطرا رسمية للتعاون، وشراكات اقتصادية، وهي فعّالة في تحقيق نتائج ملموسة مثل صفقات التجارة، والتنسيق الأمني، والزيارات الرسمية للدولة،” يقول الخبير في قضايا الأمن الإقليمي بجنوب القوقاز فؤاد شهبازوف لـ”الحرة”.
شهبازوف يعيب على هذا النوع من الاتفاقات “ضعفها”، وخاصة في ما يتعلق بمحدودية تأثيرها على المستوى الشعبي.
بالتالي “يظل الرأي العام في العديد من المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة متشككا تجاه التطبيع حتى لو كان هناك اعتراف رسمي بإسرائيل، وذلك نتيجة غياب أي تقدم في ملف القضية الفلسطينية،” يضيف شهبازوف.
من هنا يمكن الاستنتاج أن الاتفاقات الحكومية قادرة على فتح السفارات وتوقيع العقود التجارية، لكنها لا تكفي لوحدها لبناء سلام طويل الأمد.
فالتجارب التاريخية واضحة في هذا المجال، وخاصة في دول عربية وقعت مبكرا اتفاقات سلام مع إسرائيل، مثل مصر والأردن، حيث ظل السلام حبيس النخب السياسية ولم يجد له جذورا في المجتمع.
لهذا السبب، يكتسب ملف التطبيع الشعبي أهمية مضاعفة في دول القوقاز والبلقان.
فأذربيجان هي أقرب حليف مسلم لإسرائيل، التي كانت من أوائل الدول التي اعترفت رسميا بباكو بعد إعلان استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991.
تزود أذربيجان الدولة العبرية بما يصل إلى 55% من احتياجاتها النفطية، وتحصل في المقابل على أنظمة أسلحة متطورة بمليارات الدولارات.
شكّلت الأسلحة الإسرائيلية 69% من واردات أذربيجان من السلاح بين عامي 2016 و2021، بما في ذلك أنظمة متطورة لاعتراض صواريخ وطائرات مسيّرة انتحارية لعبت دورًا كبيرًا في انتصار أذربيجان على أرمينيا في حرب ناغورنو كاراباخ الثانية عام 2020.
وتُعد كازاخستان أيضا من أبرز موردي النفط لإسرائيل، حيث أظهرت أرقام حكومية في كازاخستان أن اسرائيل تستورد نحو 25% من احتياحجاتها النفطية من استانا، فيما بلغ حجنم التجارة بين البلدين في عام 2024 ما يقرب من 236 مليون دولار.
بينما تحركت أوزبكستان لسد فجوات تصديرية مهمة مثل النحاس بعد المقاطعة التركية.
لا يقتصر الأمر على اتفاقات بيع النفط أو شراء السلاح، بل يمتد إلى حيز اجتماعي وثقافي أعمق.
فوجود جالية يهودية قديمة في باكو ساهم في جعل العلاقة مع إسرائيل مألوفة نسبيا داخل المجتمع، ما خفف من حدة الرفض الشعبي.
في المقابل، تحاول الحكومة في ألبانيا، حيث يشكل الشباب الغالبية، أن تدمج التطبيع في برامج تعليمية ومبادرات ثقافية، بحيث يصبح التواصل مع إسرائيل جزءا من عملية بناء الدولة نفسها.
ويفتخر كثير من الناس في ألبانيا بإرث إنساني فريد حين أنقذ الألبان مئات اليهود من المحرقة النازية.
هذا الإرث التاريخي مهّد أرضية عاطفية إيجابية يمكن البناء عليها لتوسيع العلاقات الشعبية مع إسرائيل، وفقا للباحثة في الجامعة الأوروبية في تيرانا أرولدا الباساني.
“أحد أسباب الدعم القوي لإسرائيل هو التاريخ الألباني وعلاقته الخاصة باليهود خلال أحلك أيام الحرب العالمية الثانية، فقد كان المسلمون الألبان يحمون جيرانهم اليهود، وكانت ألبانيا الدولة الوحيدة التي فاق عدد اليهود فيها بعد الحرب عددهم قبلها،” تقول الباساني لـ”الحرة”.
بالإضافة لذلك، أصبحت ألبانيا ثالث أكبر مورد لزيت الوقود لإسرائيل في عام 2024 بحجم صادرات بلغت أكثر من 70 ألف طن.
وتضيف البساني أن دعم ألبانيا لإسرائيل يعكس توجهها العام في السياسة الخارجية وسعيها لإعادة صياغة صورتها “كدولة نموذجية في التسامح الديني والإسلام المعتدل، وجسر بين الشرق والغرب، وفاعل في السلام الديني”.
أما كوسوفو فالعلاقة الدبلوماسية مع إسرائيل حديثة نسبيا، وتعود لعام 2021 عندما وقعتا اتفاقا توسطت فيه الولايات المتحدة.
ذهبت كوسوفو أبعد من غيرها حين افتتحت سفارة لها في القدس في نفس العام، لتصبح أول دولة مسلمة تقدم على هذه الخطوة الحساسة.
وحتى قبل الاعتراف الرسمي، كانت هناك عوامل تاريخية وثقافية عديدة أرست الأساس لعلاقة إيجابية على المستوى العام.
فخلال حرب 1998-1999 مع صربيا، قدمت إسرائيل مساعدات إنسانية للاجئين الكوسوفيين.
وبعد إقامة العلاقات الدبلوماسية، وقع البلدان في 2024 على اتفاق السفر بدون تأشيرة مما ساهم في تعزيز قطاع السياحة بينهما.
أهمية هذا التطبيع الشعبي تكمن في أنه يضمن استدامة العلاقات، ويحميها من الانهيار عند أول أزمة سياسية.
“عندما تتسم الحكومات بالبراغماتية بالفعل، وتُعد العلاقات مع إسرائيل ذات قيمة استراتيجية، يكون التطبيع الشعبي فعّالا بشكل خاص كعامل مكمّل، لضمان أن تكون الروابط ليست فقط قائمة على التعاملات الرسمية، بل أيضًا متينة اجتماعيا” يقول شهبازوف.

غسان تقي
صحفي متخصص في الشؤون العراقية، يعمل في مؤسسة الشرق الأوسط للإرسال MBN منذ عام 2015. عمل سنوات مع إذاعة "أوروبا الحرة" ومؤسسات إعلامية عراقية وعربية.


