يهود أميركيون زاروا سوريا.. وهذا ما خرجوا به

كارل غيرشمان's avatar

كارل غيرشمان هو الرئيس المؤسس لـ “الصندوق الوطني للديمقراطية ” (NED)

قبل بضعة أشهر، وجدت نفسي، ولدهشتي البالغة، أقف وسط أنقاض أقدم كنيس يهودي في سوريا. يُقال إن كنيس “إيليا النبي” قد بُني فوق الكهف الذي اختبأ فيه النبي إيليا من الملكة إيزابيل قبل نحو ثلاثة آلاف عام. يقع الكنيس في حي جوبر، على أطراف دمشق، وهو حي دمّر بالكامل خلال الحرب الأهلية. يرمز الكنيس إلى وجود أقلية يهودية وفيرة العدد في البلاد تعود جذورها إلى عهد الملك داوود ووصل عددها إلى نحو مئة ألف قبل قرن. بقيت قلة قليلة من تلك الجالية حتى التسعينيات، حين سُمح لما يقارب 15 ألف يهودي من المقيمين في سوريا بمغادرتها. ولم يتبقَّ اليوم منهم سوى ستة فقط في البلاد.

ذهبت إلى سوريا وأنا أعتقد أن مشروع إعادة بناء كنيس جوبر قد يكون وسيلة جيدة لإشراك اليهود الأميركيين في نهضة البلاد، لكني سرعان ما أدركت أن ذلك غير ممكن. فالدمار كان شاملاً. وهذا، بطبيعة الحال، يعكس الإرث الكارثي للحرب الأهلية السورية التي استمرت 14عاماً، وأودت بحياة 600 ألف مدني وشرّدت نصف سكان البلاد البالغ عددهم 24 مليون نسمة. في 8 ديسمبر 2024، انهار نظام بشار الأسد، البعثي الوحشي، ما مهّد الطريق أمام المعارضة لتتولى الحكم. واليوم، يحكم البلاد من القصر الرئاسي في دمشق زعيم سابق لجماعة جهادية يُدعى أحمد الشرع.

أتيت إلى سوريا ضمن “البعثة اليهودية للنوايا الحسنة في سوريا” والتي نظّمها الحاخام آشر لوباتين من ولاية ميشيغان. آشر رجل لا يعرف اليأس أبدا ويقوده شغف لا يذوي لإصلاح العالم. وكان من بين أعضاء الوفد ديفيد هوروفيتز، مؤسس صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، الذي قال إنه كان كمن يحلم عندما وجد نفسه محط ترحيب في عاصمة كانت يوما من ألد أعداء إسرائيل. أما لورنس شيفمان، وهو خبير في مخطوطات البحر الميت والأدب التلمودي، فاستخدم التعبير نفسه في أحد اجتماعاتنا ليعبّر عن دهشته من أن هويتنا اليهودية الواضحة لم تكن موضع خلاف أو حساسية في أي مكان زرناه. وأعتقد أن الجميع شاركه هذا الإحساس.

محطات زيارتنا الأخرى عززت هذه الصلة مع الماضي اليهودي، إذ زرنا المقبرة اليهودية التاريخية التي تضم ضريح الحاخام حاييم فيتال (عمره 400 عام)، تلميذ الحاخام إسحق لوريا، مؤسس المدرسة القبّالية في الفكر اليهودي الصوفي. كما شاهدنا الرسومات واللوحات الجدارية المذهلة والتي تعود إلى العام 245 ميلادية في كنيس دورا أوروبوس القديم في شرق سوريا، والتي اكتُشفت عام 1932 ونُقلت قطعةً قطعة إلى دمشق، حيث تُحفظ الآن في المتحف الوطني. إن تجربة الاطلاع على هذه المعروضات، والتي نقلها ببراعة ديفيد هوروفيتز في مقاله عن الزيارة، اكتسبت قيمة مضافة مع وجود جيل جوزوفيتز، وهي مشرفة على متحف للفن اليهودي من بيتسبرغ، ضمن أعضاء الوفد. جيل كانت قد انتهت قبيل الزيارة من إعداد مخطوطة حول لوحات دورا أوروبوس وغيرها من فنون الحقبة اليهودية القديمة.

وقد دعينا أيضا إلى أحد مراكز الشرطة لمعاينة بابين مذهّبين كانا قد سُرقا من كنيس محلي قبل أسبوع فقط، لكن الشرطة المحلية تمكّنت من استعادتهما بسرعة. كان لافتاً أن طاقم تلفزيون سوري صوّرنا هناك، وسجّل كلمة شكر من الحاخام لوباتين، ما أظهر بوضوح أن مضيفينا السوريين أرادوا أن يقدموا للعالم صورة “سوريا الجديدة” المنفتحة على الخارج، الساعية لبناء مجتمع تعددي يحكمه القانون.

لقاءاتنا مع المسؤولين السوريين عززت هذه الرسالة. ففي وزارة الخارجية التقينا قتيبة إدلبـي، مدير دائرة الشؤون الأميركية، الذي كان سابقاً زميلاً في “المجلس الأطلسي” في واشنطن. كان حديثه صريحاً ومباشراً: قال إن السوريين متحمسون “لبناء جسور جديدة” مع العالم الخارجي، معرباً عن أمله في أن “كثيرين في إسرائيل يريدون طي الصفحة”. لكنه أضاف سريعاً أن هذا “ليس ما يفكر به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يقود إسرائيل نحو عزلة دولية”.

لم يعترض أحد من الوفد على رأيه، لكنه شدّد على أن “استقرار سوريا يصب أولاً في مصلحة إسرائيل”.  قتيبة أكد على أهمية استدراك الموقف قبل فوات الأوان وقال “إن أمام سوريا فرصة ضيقة جدا للانطلاق مجدداً قبل أن تنزلق إلى حرب أهلية جديدة”.

هذا أيضا كان رأي وزير الاقتصاد والصناعة، محمد نضال الشعار، الذي قال: “سوريا ستنهار، مع تداعيات خطيرة على المنطقة كلها، إذا لم تستغل هذه الفرصة النادرة لإعادة بناء اقتصادها ومجتمعها”. وقد تم بالفعل إحراز تقدم ملموس على صعيد الإعمار، إذ تعهدت السعودية وقطر والإمارات باستثمار نحو 30 مليار دولار في مشاريع البنى التحتية والطاقة، مع توقع تدفق مزيد من الاستثمارات من الخليج والأردن وتركيا ودول أخرى.

كما أطلقت الحكومة سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية المهمة من بينها إصدار عملة جديدة لمكافحة التضخم واستعادة ثقة العامة. كما اتخذت قرارا ضروريا رغم صعوبته على الناس برفع الدعم عن منتجات الطاقة. ووقّعت شركة “ماستركارد” اتفاقاً تاريخياً مع البنك المركزي السوري، يعيد البلاد إلى النظام المالي العالمي، ويتيح للسوريين استخدام الخدمات المصرفية الحديثة وبطاقات الائتمان للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب. وفي الوقت نفسه، صوّت مجلس الشيوخ الأميركي لإلغاء العقوبات الأساسية على سوريا، ومن المتوقع أن يقرّ الكونغرس الإلغاء الكامل قبل نهاية العام. ويبدو أن زيارة الشرع للبيت الأبيض قبل أيام قد سرعت وتيرة تطبيع العلاقات بين واشنطن ودمشق.

خلال زيارتنا التقينا أيضاً هند قبوات، وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهي المرأة والمسيحية الوحيدة في الحكومة. قبوات ناشطة سلام منذ زمن بعيد عُرفت بدعوتها للتسامح بين الأديان. كانت قد ساهمت بفصل في كتاب جماعي يضم مقالات لدعاة سلام من اليهود والعرب، تناولت فيه تجربتها قبل الحرب لبناء جسور سلام بين مختلف المكونات السورية. تقارن قبوات بين بشار الأسد، الذي نشأت معه، واحمد الشرع قائلة “إذا اختلفت مع بشار كان ذلك آخر يوم في حياتك، أما الشرع فيستمع ويريد الحوار”.

لم يمدح أحد الرئيس الشرع كما فعلت قبوات، لكنه لم يظهر لنا ما يناقض وصفها له كزعيم متزن ومحترم ولم نلحظ أي مؤشرات على أنه يسعى إلى بناء عبادة شخصية له.

الشرع لا يزال في بداية مسيرته لإحياء سوريا، ويواجه تحديات هائلة، أبرزها رأب الانقسامات العرقية والطائفية العميقة في البلاد. فلم تبدأ الحكومة بعد عملية عدالة انتقالية حقيقية لمحاسبة مسؤولي النظام السابق المتورطين في جرائم حرب، وهو ما ساهم في اندلاع موجات انتقام طائفي ضد العلويين في الساحل السوري.

يشير المتشككون إلى أن الحكومة لم تتخذ حتى الآن إجراءات فعالة لمحاسبة المتورطين في الهجمات الدموية ضد الأقليات، سواء تلك التي وقعت في الساحل في مارس الماضي أو الصدامات الطائفية في السويداء في يوليو، رغم إعلان لجنة التحقيق الحكومية في أحداث السويداء الأحد الماضي عن توقيف عدد من منتسبي وزارتي الدفاع والداخلية. غير أن تردد القيادة في مواجهة المتشددين السنّة، الذين يشكلون جزءاً من قاعدة دعم الشرع، يفسر عدم الاعتراف حتى الآن بالهويات القومية واللغوية والدينية المميزة للأكراد والدروز وغيرهم من الأقليات في الإعلان الدستوري المؤقت.

تحقيق التوازن بين منح الأقليات حكماً ذاتياً ذا معنى، وبناء حكومة مركزية فاعلة تمتلك السلطة على كامل تراب البلاد، سيكون مهمة بالغة الصعوبة، لاسيما وأن دمشق تواجه أيضاً ضغوطاً من دول الجوار، وعلى رأسها تركيا وإسرائيل.

في ختام زيارتنا، أصدر عدد منا بياناً يدعو إلى “بداية جديدة في سوريا“. لم نذكر إسرائيل بالاسم، لكننا قلنا إن “نجاح سوريا في بناء مجتمع تعددي تحكمه سيادة القانون سيُعزّز كثيراً آفاق السلام في الشرق الأوسط”. احتمال تحقق ذلك لا يزال غير مؤكد، لكن من الصعب إنكار أن سوريا قطعت شوطاً بعيداً منذ سقوط نظام الأسد قبل أقل من عام. إنها بقعة ضوء نادرة في زمن مظلم وخطر، ويجب أن ندرك أهميتها ونبذل كل ما بوسعنا لدعم عملية الانتقال التي بدأت فعلاً للمضي قدماً بثبات – بل بسرعة أيضاً.

كارل غيرشمان

الرئيس المؤسس ل الصندوق الوطني للديمقراطية (NED)


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading