تقف اليوم صناعة السلاح الخليجية بين ضرورات التوطين وواقعية الاستيراد، وهي معادلة لم يعد من الممكن الفصل بين طرفيها.
وقد برز هذا التداخل بشكل جلي خلال “معرض دبي للطيران 2025” مع الكشف عن الطائرة “بدر 250 “، وهي أوّل طائرة دفاعية متوسطة الحجم يتم تصنيعها بالكامل داخل بيئة خليجية.
ولم يكن هذا الإعلان مجرّد عرض تقني، بل إشارة واضحة إلى أن مفهوم الأمن لم يعد محصورا في شراء المنظومات المتقدمة، بل تعداه إلى امتلاك المعرفة الدفاعية وتطويرها.
وانعكس هذا التحول على مختلف السياسات الدفاعية لدول الخليج، حيث يجري العمل في اتجاهين متوازيين: الأول توسيع القاعدة الصناعية المحلية. أماما الثاني، فيتمثل في الحفاظ على الجاهزية الفورية عبر صفقات خارجية متقدمة.
السعودية، على سبيل المثال، رفعت هدف التوطين في الصناعة الدفاعية من 19.35 في المئة إلى 50 في المئة بحلول 2030، بينما وقعت في الوقت ذاته صفقة ضخمة مع الولايات المتحدة بقيمة 142 مليار دولار، في مايو الماضي، تشمل وصواريخ وأنظمة دفاع جوي ومعدات اتصالات بحرية وجوية.
وتطرح هذه الازدواجية سؤالا كبيراً: إلى أيّ مدى يمكن للصناعة العسكرية الخليجية أن تشكّل ركيزة أساسية تضمن الاستقلال الاستراتيجي؟ وهل يمكن أن يتطوّر توطينها، بحيث يقلل الاعتماد على الخارج دون أن يضعف الجاهزية الدفاعية في بيئة مضطربة؟
توطين صناعة الأسلحة
تطوير الصناعات الدفاعية في الخليج لم يعد مجرد مشروع اقتصادي أو سياسي، بل أصبح أحد أهم مؤشرات تحويل الدول إلى قوى إقليمية وازنة، فالسعودية سجلت انفاقا عسكريا بلغ 75.8 مليار دولار عام 2024، وخصصت في 2025 نحو 78 مليار دولار تمثل 21 في المئة من الانفاق الحكومي و7.1 في المئة من الناتج المحلي.
ويعكس حجم الإنفاق السعودي على التسلّح الحاجة الملحة، بنظر خبراء، لبناء منظومة دفاعية مستقلة نسبيا عن تقلّبات التحالفات الدولية.
وقد ارتفعت نسبة التصنيع المحلي في السعودية إلى 19.35 في المئة عام 2024، وفقاً لمؤشر نسبة التوطين، وهو أحد المؤشرات الرئيسة لـ”رؤية البلاد 2030″. وقد نتج هذا الارتفاع عن برامج ضخمة أطلقتها الهيئة العامة للصناعات العسكرية، التي تعمل على 74 فرصة استثمارية في سلاسل التوريد الدفاعية.
وفي الإمارات، يبرز نموذج مجموعة ” EDGE”، التي تضم أكثر من 35 كياناً يعمل فيها أكثر من 14,100 موظف. وقد رفعت انتاجها، خلال 5 سنوات، من 30 منتجاً إلى 201 منتج دفاعي وتقني.
قطر، من جانبها، تعمل عبر Barzan Holdings على تطوير الذخائر والأنظمة المضادة للطائرات من دون طيار والأسلحة المحمولة، فيما تم تأسيس المؤسسة العسكرية لتطوير صناعات الحروب في البحرين MIDWI عام 2022، وهي خطوة تهدف إلى تأطير التوجه نحو التصنيع الدفاعي.
وفي عمان، تشكل الشراكات الدولية مع شركات مثل Aselsan التركية مسارا مهما لنقل التكنولوجيا وتأسيس منظومات إنتاج محلية، فيما ما تزال الكويت في مرحلة تأسيسية تعتمد فيها على الاستيراد.
ويتضح من مسار هذا التطور أن الدول الخليجية ليست في مرحلة بحث عن الاستقلال الكامل، بل في مرحلة بناء قاعدة صناعية تستوعب التقنيات المتقدمة، بحيث يصبح الجزء الأكبر من القيمة المضافة محليا.
ويقول اللواء شامي الظاهري، قائد كلية القيادة والأركان في القوات المسلحة السعودية سابقاً إن التصنيع العسكري في الخليج لم يكن بعيدا عن التجارب العربية، حيث تأسست الهيئة العربية للتصنيع في مصر في منتصف السبعينيات بمشاركة السعودية والإمارات وقطر، قبل أن تتوقف التجربة بعد توقيع “اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية”، موضحاً أن السعودية اتخذت خطوة مبكرة عام 1949 بإنشاء المصانع الحربية في منطقة الخرج، لتأمين الذخائر والأسلحة الخفيفة للقوات المسلحة.
“اليوم، شركات مثل SAMI تمثل امتدادا طبيعيّا لمشروع بدأ قبل عقود، خاصة وأنها تهدف إلى توطين 50 في المئة من الانفاق الدفاعي”، يضيف الظاهري.
وقد حققت دول خليجية نجاحات مهمة في جهودها لـ”توطين صناعة الأسلحة”، لكن لم تصل بعد إلى إنتاج أسلحة ثقيلة بالكامل.
يرى الخبير الاستراتيجي خالد الصلال أن الدول الخليجية لن تنتج المقاتلات أو المحركات النفاثة في المدى المنظور، وأن التركيز سيكون على الطائرات من دون طيار والذخائر الذكية والأنظمة الإلكترونية والدعم اللوجستي، وهي القطاعات التي يمكن للقطاع الخاص الخليجي الدخول إليها بسهولة نسبية.
أما الظاهري، فيشير إلى أن الصناعة العسكرية الوطنية لا يمكنها تصنيع كلّ شيء، لكنها تفتح مجالاً واسعاً للشركات المحلية للمساهمة في التصنيع العسكري، تماما كما يحدث في الغرب، حيث تشارك عشرات الشركات المدنية في تصنيع طائرة (F35)، كما يؤكد.
الصفقات الخارجية
رغم التوسع في سياسة توطين صناعة الأسلحة في الدول الخليجية، إلا أنها ما تزال تعتمد، بشكل كبير، على المشتريات الدفاعية الخارجية لتأمين الجاهزية الفورية، خصوصا في المجالات ذات التعقيد التقني العالي.
وفي العقد الأخير، عقدت الدول الخليجية صفقات أسلحة ضخمة، أبرزها الصفقة التي وقعتها السعودية مع الولايات المتحدة في مايو 2025 لتزويدها بأسلحة قتالية متنوعة بقيمة 142 مليار دولار. كما تمت الموافقة على بيع 1000 صاروخ AIM-120C-8 للسعودية بقيمة 3.5 مليار دولار.
وبالنسبة للإمارات، فقد عقدت صفقة مع واشنطن للحصول على ذخائر موجهة بقيمة 1.2 مليار دولار في 2024، تلتها موافقات على مروحيات CH-47F وصيانة F-16 بقيمة تتجاوز مليار دولار.
كذلك عقدت كل من قطر والكويت والبحرين صفقات لشراء أسلحة أميركية وأوروبية متنوعة، بلغت قيمتها مليارات الدولارات.
ويقول الصلال إن صفقات السلاح الكبرى تمنح القطاع الخاص الخليجي فرصة للاندماج في سلاسل التوريد العالمية، لأن الشركات الأجنبية ملزمة بتوطين جزء من التصنيع وتدريب الكوادر المحلية، ويرى أن التحوّل الرقمي والأمن السيبراني يمثلان نافذة مهمة للقطاع الخاص للدخول إلى ميدان الدفاع دون الحاجة إلى منشآت ضخمة.
اما اللواء الظاهري فيرى أن “الدول الخيجية تعدّ من أكبر مشتري السلاح الغربي، لأن أمنها الوطني يتطلب حصولها على منظومات لا يمكن تصنيعها محليا، مثل المقاتلات المتقدّمة والسفن الحربية والصواريخ البعيدة المدى والدبابات الملائمة للبيئة الصحراوية”.
ويلفت الظاهري إلى أن “تكلفة طائرة F-35التي تصل إلى 100 مليون دولار، تعكس حجم الاستثمار الذي تحتاجه القوة العسكرية الحديثة”.
من هنا، لا يبدو طريق جميع الدول الخليجية نحو “توطين صناعة الأسلحة” سهلاً وقصيراً، فبالرغم من النجاحات المهمة التي حققتها في هذا الصدد، إلا أنه ما يزال عليها أن تقطع أشواطاً كبيرة إضافية للوصول إلى خط النهاية.
سكينة المشيخص
كاتبة و باحثة و مقدمة برامج سعودية


