بعد أكثر من عشرين عاما على نهاية نظام صدام حسين، لم يعد سؤالُ الإطاحة وجدواها مثيرا للاهتمام في العراق، خصوصا بعد نهاية احتمالات عودة النظام البعثي السابق للحكم، رغم الاستخدام السياسي شبه المستمر لخطر العودة هذا من جانب أحزاب الإسلام السياسي الشيعي لاستثارة مخاوف الجمهور الشيعي وتحشيده خلف هذه الأحزاب في المواسم الانتخابية، في ظل ضعف منجز هذه الأحزاب الخدمي والاقتصادي.
بعيدا عن المقارنة الدائمة، التي يجريها بعض العراقيين الساخطين على تدهور الأوضاع والتي تبدو غالبا كتمرين ذهني عقيم، بين نظام ما قبل 2003 وبعده، يتعلق السؤال الأكثر إثارة عراقيا، على نحو معقول ومتوقَّع، بقدرة النظام السياسي “الجديد” على تأدية المهام الأهم التي تعني كثيرا للجمهور، وهي تحسين الأوضاع الحياتية للناس عبر تقديم الخدمات وتوفير الفرص الاقتصادية. ففي استطلاع أجراه في عام 2023 البارومتر العربي (Arab Barometer)، وهو شبكة بحثية تهتم بشؤون العالم العربي، أُشير إلى أن نحو 50٪ من العراقيين لا يبالون بنوع الحكومة التي تحكمهم ما دام بمقدورها حلُّ المشاكل الاقتصادية التي يواجهونها، فيما قال نحو 68% من المستطلعة آراؤهم في الاستطلاع نفسه، إنهم يعتقدون أن النظام الديمقراطي هو الأفضل، رغم المشاكل التي تواجهها بلادهم.
ورغم الفشل الهائل للنظام الحالي في نواحٍ عديدة مهمة اقتصادية وخدمية وسياسية، بضمنها ضمُّه العراقَ لمنظومة النفوذ الإيراني وخسارته، على امتداد السنوات، حليفاً استراتيجياً مهماً كالولايات المتحدة الأميركية التي لم تعد تهتم بالعراق إلا بوصفه مشكلة بحاجة إلى حل، فإن ثمة جوانب إيجابية في تجربة هذا النظام، أسّس لها الأميركيون بعد 2003، ما تزال مؤثرة. أكثرها أهمية هي حرية التعبير، المؤطَّرة دستورياً، التي سمحت للعراقيين، بعد عقود طويلة من القمع البوليسي ومنع التفكير المخالف للخط الرسمي، بتداول الأفكار المختلفة وفهم معنى الاختلاف السياسي كممارسة يومية تتضمن محاولة فهم الآخرين المختلفين. ومع أن هذه الحرية، في السنوات الأخيرة خصوصاً، تتعرض للكثير من التضييق وتُحاط على نحوٍ متصاعد بجدران المنع المختلفة باسم الأخلاق العامة والأعراف الدينية والمخاطر “الوطنية”، فإنها ساهمت في خلق نمط تفكير عام يقرّ بالتنوع والاختلاف وتنافس الأفكار في الحيز العام، ما يجعل العودة إلى النموذج الشمولي للحكم أمراً مستحيلاً تقريباً. ففي آخر المطاف، وبعد أكثر من عشرين عاماً من هذا التداول المفتوح للأفكار، برغم محدداته الكثيرة، ثمة اعتياد نفسي وسياسي وشعبي يجعل من الصعب ترويض المجتمع بوليسياً من جديد على نموذج القسر البوليسي الذي كان سائداً في نظام ما قبل 2003.
لا يبدو الجوارُ الإقليمي للعراق، باستثناء إيران، سعيداً بالتغير الذي حصل في عام 2003، ليس لأن هذا الجوار كان متمسكاً بنظام صدام حسين، وإنما بسبب المشاكل الكثيرة المفتوحة التي تسبب بها النظام الجديد لهذا الجوار. فمثلاً تثير الدولة الهشّة وغير المستقرة، ذات البنية الهجينة التي تختلط فيها المؤسَّساتية بالميليشياوية – التي تحوّل إليها عراق ما بعد 2003 – قلقَ دول المنطقة، بسبب تحوله إلى مصدر لأزمات عابرة للحدود، كما في بروز دولة داعش فيه، وتهديد الفاعلين الميليشياويين فيه لبعض دول المنطقة كالأردن والسعودية والإمارات وتركيا، ودخولهم في الصراعات الداخلية للدول الأخرى كما حصل في سورية. كان اندراج العراق الفعلي في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران هو المثال الأبرز على عواقب هشاشة دولة ما بعد 2003، إذ تهيمن المصالح الجيوسياسية الإيرانية على القرارات السيادية العراقية في تشويهٍ حادٍّ ومقلق لمعنى الدولة في العراق، لم يعرفه البلد منذ تشكيله كدولة حديثة بعد الحرب العالمية الأولى.
الانطباع السائد أميركيا هو أن الإطاحة بنظام صدام حسين وبناء عراق جديد على أنقاضه كان استثمارا سيئاً، فقد أنفقت الولايات المتحدة الأموال وسُفك دمُ جنودها في العراق دفاعا عن النظام الجديد، ووظفت الكثير من رأسمالها السياسي لترسيخ هذا النظام على أمل تحويله إلى منارة إلهام شرق أوسطية: دولة ناجحة ديمقراطياً ومرفّهة اقتصادياً، وشريك استراتيجي وثيق يبرهن جدوى التحالف مع الولايات المتحدة. لكن النتائج كانت بائسة، فالولايات المتحدة لا تأمن على سفارتها في بغداد، ولا يستطيع مواطنوها، خصوصاً الدبلوماسيون منهم، التجول في العراق من دون التعرض لخطر الخطف أو الاغتيال. والحقيقة السيئة الأكثر وضوحاً لأميركا هي أنها فعلت الكثير لبناء النظام العراقي الجديد لينتهي هذا النظام أخيراً في معسكر عدوّها الرئيسي في المنطقة: إيران الجمهورية الإسلامية.
رغم كل هذا السجل السلبي، بالخسارات الكثيرة والمفتوحة فيه، ثمة شيء مهم وإيجابي في التجربة الأميركية العراقية: إنها الصيرورة الصعبة والمكلفة التي بدأتها الولايات المتحدة في العراق، من دون توقّع شدة الصعوبة وعلوّ التكلفة، وتهيّئ السبيل لمسارات جديدة بعيدة عن الفشل الحالي. عبر هذه الصيرورة المرهِقة والدموية أحياناً، التي ما تزال تتكشف فصولها، ثمة تعلّم نادر للدروس: تخلّى معظم العراقيين عن وهم الإسلام السياسي الشيعي وسياسات الهوية التي جاء بها هذا الإسلام ودعمته أميركا فيه بتسرّع، لتتشكل الآن فيه، ببطء لكن بوضوح، وطنية عراقية تقوم على رفض هذا النوع من السياسات ومناهضة إيران بوصفها احتلالاً غير معلن للبلد، تحسّ بوطأته الأغلبيةُ فيه لكنها تخشى تسميته أو مواجهته بسبب هيمنة حلفائها العراقيين على مشهد السياسة والأمن.
كانت احتجاجات تشرين في 2019 الإعلان الأول والشجاع عن هذه الوطنية التي لم تنتبه لها الإدارة الأميركية وقتها إلا على نحو عابر وسطحي. مع تصاعد أزمات النظام الحالي الاقتصادية والسياسية البنيوية الطابع، بضمنها ضعف الدعم الشعبي له ورفضه القيام بإصلاحات جدية وواسعة لمكافحة الفساد وتفكيك الاقتصاد الريعي، وذهاب معظم منطقة الشرق الأوسط نحو مسار التنمية والتعاون والاندماج الإقليمي، سيجد عراقُ الإسلام السياسي الشيعي، الرافض للخروج من دائرة النفوذ الإيراني، نفسه وحيداً معزولاً إقليمياً وداخلياً. حينها سيبدأ، على الأرجح، مسارٌ عراقيٌّ آخر تقوده قوى محلية كثيرة معارضة، لكتابة فصل جديد من قصة العراق بعيداً عن الهيمنة الإيرانية، وربما – إذا استفادت هذه القوى فعلاً من دروس الفشل على مدى العشرين عاماً الماضية – يضع البلد، أخيراً، بعد الكثير من العناء والخسارات، على السكة الصحيحة.
الآراء والمواقف الواردة في هذا المقال تعبّر عن رأي الكاتب فقط، ولا تعكس بالضرورة الموقف أو السياسة الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN).

عقيل عباس
عقيل عباس، زميل أول غير مقيم في مبادرة العراق ضمن برامج الشرق الأوسط في المجلس الاطلسي، يركز في أبحاثه على الهويات الوطنية والدينية وقضايا الحداثة ومسارات التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط.


