مصر وإيران في المنطقة الرمادية

منذ نحو أربعة عقود، تقيم العلاقات المصرية – الإيرانية في المنطقة الرمادية. في محطات عدة، حصل تواصل بين القاهرة وطهران، لكنه لم يرتق بعلاقاتهما إلى “المستوى الطبيعي” من التعاون الثابت. وفي فترات أخرى، بدت هذه العلاقات فاترة وحذرة، لكنها لم تصل إلى حدّ القطيعة الكاملة.

حاليّاً، فرضت ملفات عدة على البلدين “وضع إرث الماضي المثقل بالخلافات بينهما على الرف” وإن مؤقتاً، والتواصل دفاعاً عن مصالحهما وتداركاً لما هو أسوأ بالنسبة إلى أمن الشرق الأوسط واستقراره.

في إطار هذا التواصل، أجرى وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، الثلاثاء الماضي، اتصالاً هاتفيّاً بنظيره الإيراني عباس عراقجي، جرى خلاله “بحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية، وتبادل الرؤى إزاء القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وعلى رأسها تطورات الملف النووي الإيراني”، كما ذكر بيان لوزارة الخارجية المصرية.

وكانت القاهرة أعلنت، في التاسع من سبتمبر الماضي، توصّل إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى اتفاق لاستئناف التعاون بينهما الذي توقف في يونيو 2025، وذلك عقب وساطة مصرية.

لكن وزير الخارجية الإيراني أعلن، في نوفمبر الماضي، انتهاء “اتفاق القاهرة” رسميّاً، عقب تبني مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قراراً يطالب طهران بالتعاون الفوري بشأن منشآتها النووية ومخزونها من اليورانيوم المخصب.

وتخشى القاهرة أن يؤدي الجمود في “مفاوضات الملف النووي الإيراني” إلى تصعيد عسكري يعرّض أمن المنطقة للاهتزاز، علماً أن ضربات أميركية وإسرائيلية استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في يونيو الماضي.

وتعزز كلّ هذه المعطيات أهمية الدور المصري بشأن الملف النووي الإيراني وتثير تساؤلات حول ما إذا كانت ستدفع البلدين للخروج من “المنطقة الرمادية”.

مفاوضات سريّة محتملة

يقول الدكتور أحمد لاشين، أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة عين شمس، لـ”الحرة” إن العلاقات المصرية – الإيرانية تمر بمرحلة يمكن وصفها بـ”الانفتاح الحذر”، مؤكداً أن المشهد لا يعكس تطبيعاً كاملاً، لكنه يمثل خروجاً واضحاً من حالة الجمود الطويل التي سادت العلاقات بين البلدين.

ويشير لاشين إلى أن “هذه الاتصالات ليست بروتوكولية، بل وظيفية، إذ تتحرك مصر بمنطق إدارة الأزمات، بينما تسعى إيران إلى فك العزلة الإقليمية المفروضة عليها”.

ولا تشكّل الأزمات الإقليمية وحدها ساحة للتواصل بين البلدين، فقد كان للعامل الاقتصادي دوره أيضاً، بما في ذلك المخاوف من التبعات الاقتصادية لأيّ تصعيد عسكري في المنطقة.

ويوضح لاشين أن قناة السويس، وأمن البحر الأحمر، واستقرار الملاحة الدولية تشكل ركائز استراتيجية للاقتصاد المصري، وأن أيّ تصعيد إقليمي، سواء عبر الحوثيين أو مواجهات مباشرة، ينعكس فوراً في صورة خسائر اقتصادية كبيرة”. لذلك، يضيف، تتحرك مصر ببراغماتية عالية لخفض التوتر وحماية مصالحها الاقتصادية الحيوية.

ومن جانبه، قال الكاتب إبراهيم شير، الخبير في الشؤون الإيرانية، في حديث لموقع “الحرة”، إن طهران تعتبر القاهرة بوابة يمكن من خلالها إيصال رسائلها إلى الخارج.

ورأى شير أن القاهرة تسعى إلى رعاية مفاوضات مستقبلية، قد تبدأ بشكل سريّ، بين طهران وواشنطن، معتبراً أن إيران تنظر إلى الدور المصري باعتباره محوريّاً وموثوقاً إقليميّاً وسياسيّاً، وأن مصر تمثل ساحة محايدة للحوار بين إيران والولايات المتحدة.

إرث التاريخ وتحديات الحاضر

في أغسطس الماضي، قال وزير الخارجية الإيراني إنه التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرات عدة، كما التقى مع نظيره المصري 10 مرات. وأشار عراقجي إلى تشاور منتظم بين البلدين بشأن غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والملف النووي الإيراني.

وفيما يتعلق بخلفية القطيعة بين البلدين، أكد عراقجي وجود تقدّم جيد في العلاقات الثنائية، رغم استمرار بعض العقبات القديمة، مؤكدًا أن هذه العلاقات فاقت التوقعات، لكن الطرفين لا يتعجلان الإعلان الرسمي عن تطبيعها.

ورغم التقدّم باتجاه حلّ بعض الخلافات بين البلدين، من قبيل تغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي في طهران، إلا أن ملفات عدة أخرى ألقت أو تزال تلقي بظلال كثيفة على علاقاتهما، منها سياسات إيران في منطقة الخليج ولبنان وسوريا واليمن وغيرها.

واعتبر لاشين أن الاتصالات القائمة بين القاهرة وطهران تعكس قدرة على تجاوز الأزمات التاريخية في مواجهة متطلبات اللحظة الراهنة، لافتاً إلى أن القاهرة لا تندفع نحو التطبيع، لكنها في الوقت ذاته لا تُغلق الباب.

وكان آخر اجتماع بين الرئيسين المصري والإيراني قد جرى على هامش القمة العربية – الإسلامية الطارئة، التي عُقدت في الدوحة في سبتمبر الماضي، حيث أكدا، في بيان رسمي، ضرورة مواصلة التشاور بين البلدين بصورة أعمق في المرحلة المقبلة، في ضوء التطورات الإقليمية المتسارعة، وبحثا سبل تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات.

 كبح التصعيد الإقليمي

لعبت القاهرة دوراً مهماً في المفاوضات حول العديد من الملفات الإقليمية، بما في ذلك التوصّل إلى “اتفاق وقف إطلاق النار في غزة”، وتؤكّد أن عدم دخولها طرفاً في حالة الاستقطاب الإقليمي يمنحها هامشاً أوسع للتحرّك ويجعلها أكثر قبولاً لدى أطراف الصراع في مناطق عدة.

وإذ يحذّر لاشين من أن أيّ مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل ستشعل المنطقة بأكملها، وستكون مصر من أوائل المتضررين، يرى أن “القاهرة تمتلك القدرة على لعب دور الوسيط الإقليمي القوي والمؤثر لخفض حدة الصراع بين إيران وإسرائيل، في ظل إدراك الطرفين لفاعلية الدور المصري، خاصة بالنسبة لإيران التي تعتمد على القاهرة في الخروج من دائرة العزلة الإقليمية”.

ويوافق شير لاشين رأيه، ويؤكد أن السنوات الأخيرة شهدت مستوى عالياً من التنسيق بين مصر وإيران في عدد من ملفات المنطقة، ما أسهم في خفض التصعيد وتحقيق قدر من الاستقرار النسبي.

وفيما يتعلق بمخاوف مصر المتعلّقة بالفصائل المسلحة المدعومة من إيران في الشرق الأوسط، يقول لاشين إن “القاهرة ترى أن الميليشيات العابرة للحدود، سواء في اليمن أو لبنان أو العراق، تهدد مفهوم الدولة الوطنية، وهو ما يمثل خطاً أحمر في العقيدة السياسية المصرية، وأيّ تقارب مع طهران يظل مشروطاً بعدم تهديد الأمن القومي العربي، خاصة أن هذه الأذرع تتسبب أحياناً في أزمات يصعب احتواؤها إقليمياً، وقد تضر بمصالح مصر، سواء مع دول الخليج أو مع إسرائيل”.

ويختم لاشين بالإشارة إلى أنه في حال استمرار المسار الحالي دون صدمات إقليمية كبرى، فقد تشهد العلاقات المصرية – الإيرانية بحلول عام 2026 “حالة شبه طبيعية، تشمل تمثيلاً دبلوماسيّاً كاملاً، وزيارات رسمية رفيعة المستوى، وربما زيارة رئاسية، لكن بشروط واضحة”.

وبذلك تبقى الملفات الراهنة عامل جذب لمصر وإيران باتجاه تحسين علاقاتهما، لكن يتوقّع أن يبقى هذا التحسّن رهن أمرين: التخلّص من إرث الماضي والتوافق بشأن الكثير من “ملفات الحاضر”.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading