المخيمات في لبنان.. مرآة لتشابك أزمات الداخل والمنطقة

ليست المخيمات الفلسطينية في لبنان مجرد تجمعات سكنية عشوائية. إنها كيانات معقدة ومتشابكة تتجاوز حدود الجغرافيا لتصبح مرآة عاكسة لأزمات لبنان والمنطقة.

في مخيم عين الحلوة، وهو النموذج الأبرز لهذا الواقع، لا يرى الزائر مجرد أبنية متراصة، بل مدينة داخل مدينة، أو كما يصفها البعض، “دولة داخل الدولة”.

على رقعة جغرافية ضيقة، تتراكم المنازل فوق بعضها البعض في محاولة يائسة للهروب من ضيق الأرض، بينما تخنق الأزقة المتشابكة الهواء والضوء معا.

هنا، لا تقل وطأة الرطوبة العالقة في الجدران عن رائحة البارود التي لا تزال تملأ الزوايا كشاهد صامت على الصراعات التي لا تهدأ.

تُدار هذه الجيوب المعزولة بأنظمة داخلية تفرضها الفصائل المسلحة، تاركة الدولة اللبنانية على الهامش، تراقب وتدير العلاقة من بعيد دون أن تمارس سيادتها الفعلية.

مع الوقت تحولت هذه المخيمات إلى جزر أمنية شبه مغلقة، بعضها بات بؤراً لتكدّس السلاح وتنامي نفوذ الجماعات المسلحة، مما أدى إلى تفاقم الفلتان الأمني واندلاع مواجهات دموية متكررة.

ومنذ عام 1948، توازى التغير الحاصل داخل المخيمات مع تغير النظرة إلى الوجود الفلسطيني في لبنان، كما تشرح الباحثة في التاريخ اللبناني والعلاقات الدولية اليانا بدر لموقع “الحرة”.

في البداية قوبل الفلسطينون بالترحيب الرسمي والشعبي الحافل، حيث فُتحت أبواب العمل أمام اللاجئين في ظل انتعاش اقتصادي، وشعر الفلسطينيون حينها بقدر من الانفتاح والأمل. لكن هذا المناخ تغيّر مع نهاية الخمسينيات، كما تشير الدكتورة بدر، حين حلّت مرحلة القمع والتهميش، ففرض “المكتب الثاني” بقيادة فؤاد شهاب رقابة أمنية مشددة في المخيمات، وحُظر النشاط السياسي داخلها.

لتقديم صورة وافية عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يجب البدء بالأساس الإنساني الذي يشكل جوهر هذه الأزمة.

يشير التقدير الرسمي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى وجود حوالي 480 ألف لاجئ فلسطيني مسجل لديها في لبنان. ومع ذلك، تشير تقديرات أخرى، بما في ذلك إحصاءات لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، إلى أن العدد الفعلي للمقيمين حاليًا داخل المخيمات وخارجها يتراوح بين 200 ألف و250 ألف لاجئ.

ويعود تراجع العدد إلى الهجرة المستمرة للأجيال الجديدة من الفلسطينيين إلى خارج لبنان للبحث عن فرص عيش أفضل. فالوجود القانوني غير المستقر، والقيود على العمل، والفقر المدقع، كلها عوامل تتضافر لتخلق بيئة من الإحباط وانعدام الأفق. وهذا الواقع هو الذي يجعل المخيمات أرضا خصبة للاضطرابات.

يقطن هؤلاء اللاجئون في 13 مخيماً موزعة على الأراضي اللبنانية، بالإضافة إلى العديد من التجمعات السكنية غير الرسمية.

هذه المخيمات تتوزع على الشكل الآتي:

– مخيمات بيروت: صبرا، شاتيلا، مار إلياس، وبرج البراجنة، إضافة إلى ضبية الذي يقع على مسافة 12 كلم شمالي بيروت.

– مخيمات الجنوب: عين الحلوة، الرشيدية، المية ومية، البص، والبرج الشمالي.

– مخيم البقاع: الجليل.

– مخيمات الشمال: البداوي، ونهر البارد.

يمثل الواقع الإحصائي للاجئين الفلسطينيين في لبنان مؤشراً صارخاً على عمق الأزمة. فمعدلات البطالة مرتفعة للغاية، وتقدر بأكثر من 50% في بعض المخيمات، بينما تزيد نسبة الفقر عن 70%.

ويعيش عدد كبير من السكان تحت خط الفقر المدقع، ما يجعلهم يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات التي تقدمها الأونروا والمؤسسات الإغاثية الأخرى. تضاف إلى ذلك قيود قانونية صارمة تمنع اللاجئين الفلسطينيين من تملك العقارات أو ممارسة أكثر من 39 مهنة، مما يفاقم من شعورهم باليأس وانعدام الفرص.

جرى تشريع السلاح الفلسطيني في لبنان عبر اتفاق القاهرة الذي وقع عام 1969 وتمتعت المخيمات وقتها بحرية تنظيمية وعسكرية، وازدهرت المؤسسات الاقتصادية والثقافية، إلى أن اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975.

وبحسب بدر، اعتبر الفدائيون “جيش المسلمين” إذ حاربوا إلى جانب المسلمين واليسار ضد المسيحيين بحسب ما كانت الانقسامات في وقتها، “فتقلّصت سلطة الدولة وتحولت منظمة التحرير إلى “دولة داخل الدولة”. ومع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وخروج منظمة التحرير من لبنان، دخل الفلسطينيون مرحلة الانحسار وانهيار المؤسسات، ثم جاءت سنوات الإهمال، “حيث ظل الحوار مع الدولة اللبنانية متقطعاً بلا نتائج ملموسة، وتراجعت الحقوق أكثر، وصدرت قوانين تحرم الفلسطينيين من التملك وتقيّد عودتهم”، على حد تعبير بدر.

الفقر واليأس وقودا للصراع

ليس البؤس الإنساني الذي يعانيه سكان المخيمات مجرد نتيجة للنزوح، بل هو واقع يجري استخدامه وتأجيجه كجزء من صراع دائم. فالأزقة المتشابكة التي تخنق الهواء والضوء، هي نفسها التي تخنق الأمل في حياة طبيعية. فغياب البنية التحتية، والفقر المزمن، والحرمان من الحقوق المدنية الأساسية، كلها عوامل تغذي حالة انعدام الاستقرار.

على المستوى الداخلي، لا تُقسَّم أحياء المخيمات بخطوط إدارية واضحة، بل “بخطوط تماس غير مرئية”، يستشعرها الزائر في كل خطوة”. كل حي يتبع فصيلاً معيناً وله ولاءاته وقوانينه، ما يجعل التنقل من شارع إلى آخر “قد يتطلب إذناً أو ‘ضمانة’ من الجهة المسيطرة، وإلا تحوّلت الزيارة إلى مجازفة قد لا تنتهي بسلام.

هذه التفاصيل الإنسانية الدقيقة توضح كيف أن الانقسام السياسي والأمني يترجم مباشرة إلى قيود على أبسط جوانب الحياة اليومية، محولاً الحركة البسيطة إلى تهديد أمني.

ويجعل الواقع الممزق من الأزمة الإنسانية محركاً رئيسياً للنزاع المسلح. الفقر واليأس يدفعان بالشباب العاطل عن العمل إلى أحضان الفصائل المسلحة، التي تقدم لهم الشعور بالانتماء، والهدف، وحتى الاستقرار المالي في بيئة خاوية من الفرص. بهذه الطريقة، لا تكون الظروف المعيشية القاسية مجرد مشكلة منفصلة، بل هي الوقود الذي يحرك آلة الصراع، حيث يُشكل الحرمان واليأس التربة التي تنمو فيها الأجندات السياسية والعسكرية.

إن حالة انعدام الجنسية والقيود القانونية تولد الفقر، وهذا الفقر يؤدي إلى حالة من اليأس، مما يخلق فراغاً في السلطة تستغله الجماعات المسلحة لتجنيد الأفراد وتوسيع نفوذها.

خصوصية طائفية: مخيم ضبية كنموذج استثنائي

تلفت الباحثة اليانا بدر إلى قصة مخيم ضبية ذات الدلالة، والتي تكشف عن ارتباط عميق بين واقع المخيمات والاعتبارات الطائفية التي تحكم البلاد.

وفقاً لبدر، يُعد مخيم ضبية نموذجاً استثنائياً يوضح كيف أن سياسة الدولة اللبنانية تجاه اللاجئين لم تكن قائمة على منطق إنساني أو وطني موحد، بل كانت مرتبطة بالانتماء الديني والطائفي.

نشأ مخيّم ضبية منذ البداية في عام 1956 كحاضنة للمسيحيين الفلسطينيين الذين نزحوا من قرى الجليل مثل البصّة وحيفا ويافا. وكان معظم سكانه من الكاثوليك، وقد أُقيم المخيم على أرض وقف الرهبانية اللبنانية المارونية. هذا البعد الديني منح المخيم خصوصية واضحة، إذ حظي برعاية خاصة من الرهبانية المارونية والبعثة البابوية، مما أتاح له امتيازات لم تعرفها المخيمات الأخرى. الأهم من ذلك، جرى منح قسم من أهله الجنسية اللبنانية في الخمسينيات، ما سهّل اندماجهم في محيطهم.

وتمثل حالة ضبية مثالاً نقيضاً للسردية العامة التي تصف حرمان اللاجئين من الجنسية والاندماج، وتوضح بدر أن هذا الحرمان لم يكن سببه “الوجود الفلسطيني” بحد ذاته، بل سببه “الوجود الفلسطيني الذي يهدد التوازن الطائفي والديمغرافي” في البلاد.

في حالة ضبية، حيث لم يكن هناك تهديد طائفي أو ديمغرافي، تم التسامح مع الاندماج بل وتشجيعه. وهذا يثبت أن الطائفية هي المنطق الحاكم وراء السياسات المتعلقة بالمخيمات، وأن الخوف من التغيير الديمغرافي هو المحرك الأساسي للقرارات السيادية.

تداخل الولاءات: خارطة عين الحلوة كمثال

إن خارطة النفوذ في المخيمات الفلسطينية، وبخاصة في مخيم عين الحلوة، لا تتبع منطقاً بسيطاً، بل تشبه فسيفساء معقدة تتداخل فيها الولاءات وتتضارب فيها المصالح.

تتوزع السيطرة في المخيم بين مجموعة واسعة من القوى، من فصائل فلسطينية تقليدية إلى جماعات جهادية، ومجموعات أخرى تابعة لزعماء محليين.

تعتبر حركة فتح القوة الأمنية الأكبر والأكثر انتشاراً في عين الحلوة، حيث تتوزع قواتها في مناطق واسعة تشمل أحياء البركسات، جبل الحليب، بستان القدس، السكة، سوق الخضار، وحي الكنايات. كما تمتد سيطرتها حتى حاجز قوات الأمن الوطني الفلسطيني عند المدخل الجنوبي للمخيم.

في المقابل، شهد حي حطين تراجعاً ملحوظاً لحضور فتح، إذ انسحب أفرادها وعائلاتهم بسبب سيطرة “الجماعات المتشددة”، لدرجة أن العديد من أبناء فتح لم يعودوا قادرين حتى على المرور فيه.

في حين تتمركز حركة حماس في أحياء محددة مثل صفورية وعرب الغوير. أما الجماعات الإسلامية المتشددة، فتهيمن على مناطق مثل تعمير الطوارئ، حي اللوبية، وحطين، وتضم مجموعات مثل فلول جند الشام وفتح الإسلام. كما تتخذ مجموعة بلال بدر من حي الطيرة معقلاً رئيسياً، رغم تراجع قوتها بعد مقتل قائدها.

إلى جانب هذه القوى، تلعب “عصبة الأنصار” دوراً رئيسياً في الخارطة الأمنية للمخيم، ممتدة مناطق نفوذها في أحياء الطوارئ، الطيرة، عرب زبيد، وقاطع أهل سعسع، وتشارك في السيطرة على مدخل الحسبة. كما يتداخل نفوذ قوى متعددة في أحياء السميرية والمنشية، من بينها عصبة الأنصار، وجماعة منير المقدح، والحركة المجاهدة، بالإضافة إلى عناصر من جماعة محمد جمعة، القيادي السابق في كتائب عبد الله عزام.

إن هذه الخارطة المعقدة لا تشير إلى صراع ثنائي بسيط بين قوتين رئيسيتين، بل تكشف عن نظام أمني شديد التشرذم ومتعدد الأطراف، تتداخل فيه عناصر فلسطينية وأخرى غير فلسطينية. هذا التشرذم ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة للتدخلات الخارجية، إذ يتم استغلال هذا الانقسام لمنع أي طرف من بسط سيطرته الكاملة، والحفاظ على حالة من الفوضى “المنظمة” التي يمكن تفعيلها أو تجميدها حسب الحاجة.

“بندقية للإيجار”: المخيمات كأداة إقليمية

لا يمكن فصل الحالة الأمنية داخل المخيمات الفلسطينية عن التوترات الإقليمية.

وفقاً للباحث الفلسطيني هشام دبسي، تعمل بعض القوى المسلحة في مخيم عين الحلوة “بمثابة بندقية للإيجار، تستخدم لخدمة مصالح أطراف إقليمية كإيران”.

ويشير دبسي في حديث لموقع “الحرة” إلى أن الفصائل الفلسطينية توظف “كورقة أمنية تفعّل عند الحاجة، لا سيما حين تتقاطع مصالح محور الممانعة مع أجندات الجماعات الجهادية”.

وتتجلى هذه الديناميكية في العلاقة بين القوى المحلية والداعمين الإقليميين.

يشير دبسي إلى “تصدّع عميق” بين فتح وحماس، ويضيف أن التوتر الأكبر يظهر في علاقة فتح بـ”التنظيمات الجهادية التي يشرف عليها الشيخ ماهر حمود، بتكليف مباشر من حزب الله”. وتُستخدم هذه الجماعات، حسب دبسي، “كأدوات أمنية لإثارة الفوضى داخل المخيم”. وهذا يوضح كيف أن الانقسامات الداخلية داخل المخيم ليست مجرد خلافات سياسية، بل هي انعكاس للتحالفات والعداوات الجيوسياسية الأوسع.

إن وجود هذا “التشابك في الولاءات” يجعل من واقع المخيمات “شديد التعقيد”، لدرجة أن أي محاولة لضبط السلاح فيها تصبح معقدة بقدر تعقيد ملف سلاح حزب الله نفسه.

وفي هذا السياق، تؤكد الباحثة اليانا بدر أن هذه الديناميكية الإقليمية لا يمكنها أن تنجح في فراغ، فالقوى الإقليمية لم تستغل المخيمات في سياق معزول، بل استغلت نقطة ضعف لبنان الداخلية. ولطالما ارتبط الوجود الفلسطيني المسلح بعوامل خارجية، غير أن هذه الحقيقة لا تُعفي النظام السياسي اللبناني من مسؤولية كبيرة في تفاقم هذه الظاهرة.

لقد لعبت الانقسامات الطائفية والحزبية، إضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة، دوراً محورياً في جر السلاح الفلسطيني إلى قلب الصراعات الداخلية.

وتعاملت القوى اللبنانية مع الوجود الفلسطيني المسلح بمنطق المصلحة الفئوية، فوظفته أحياناً كورقة ضغط أو أداة في صراعاتها، بدل السعي إلى صياغة موقف وطني موحّد يضمن ضبطه وتحييده عن الساحة الداخلية.

وجعل غياب جبهة لبنانية متماسكة، قائمة على رؤية استراتيجية مشتركة، الساحة الداخلية هشّة أمام أي اختراق، وأتاح للقوى الإقليمية والدولية استغلال الورقة الفلسطينية لتصفية حساباتها على الأرض اللبنانية

القرارات المعلقة: بين نزع السلاح ومحور الممانعة

تعتبر مسألة نزع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات من القضايا الأكثر تعقيداً وحساسية. ففي مايو الماضي، صدر بيان مشترك عن رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أعلنا فيه انتهاء “زمن السلاح الخارج عن سلطة الدولة اللبنانية”. ورغم أن هذه الخطوة بدت وكأنها محاولة لتطبيق القرار الدولي 1559، الذي ينص على نزع سلاح جميع الميليشيات، لم يسجل أي تحرك فعلي على الأرض.

وفي تفسير هذا الجمود، تبرز روايتان متضاربتان. يرى مسؤول العلاقات الوطنية في حركة فتح – بيروت، حسن بكير، أن التأجيل “مرتبط بتغييرات تنظيمية داخل قوات الأمن الوطني الفلسطيني”، وأن العملية تنتظر “ساعة الصفر” لتنفيذ خطة من شأنها أن تتولى فيها قوات الأمن الوطني الفلسطيني الدور الأساسي في نزع السلاح بالتنسيق مع الجيش اللبناني.

في المقابل، يعزو الباحث هشام دبسي تعثر الخطة إلى ما أسماه “سطوة محور الممانعة”، مؤكداً أن إعلان بعض الفصائل الجهادية وحماس استعدادها لتسليم السلاح هو “خطاب مزدوج” لا يعكس إرادة حقيقية، بل يعكس الرغبة الإيرانية في الحفاظ على المعادلة الميدانية القائمة.

هذا التضارب في التفسيرات يكشف أن قضية نزع السلاح الفلسطيني ليست قضية أمنية معزولة، بل هي رهينة لأزمة سيادة أعمق داخل الدولة اللبنانية نفسها. ففي الوقت الذي تتعرض فيه السلطة اللبنانية لضغوط أميركية متزايدة لوضع خطة لنزع سلاح “حزب الله”، يرفض الأخير هذا المسعى بشكل قاطع. وبما أن ملف المخيمات أصبح جزءاً لا يتجزأ من الصراع الإقليمي، فإن أي حل لسلاح الفصائل الفلسطينية أصبح مشروطاً بتطورات إقليمية أوسع، ما يجعل المخيمات أداةً في صراع السيادة اللبناني.

شبح الماضي: دروس من نهر البارد

على الرغم من تعقيد المشهد الأمني، يستبعد الخبراء تكرار سيناريو مخيم نهر البارد الذي شهد مواجهة دامية عام 2007.

يرى دبسي أن “الواقع السياسي والأمني اليوم يختلف جذرياً عن تلك المرحلة التي فجّرت المواجهة مع فتح الإسلام”، حين لعب النظام السوري دوراً مباشراً في تجنيد عناصر التنظيم لإقامة إمارة إسلامية.

أما اليوم، فقد سقط نفوذ هذا النظام، وتمرّ العلاقة اللبنانية-الفلسطينية بمرحلة من التفاهم والتنسيق. من جهته، يشير بكير إلى أن “تجربة نهر البارد كانت قاسية للطرفين من ناحية الخسائر”، وقد خلّفت دروساً تدفع الجميع إلى تجنب الانزلاق مجدداً نحو مواجهة عسكرية مماثلة.

ودارت اشتباكات داخل مخيم نهر البارد، على مدى أشهر في عام 2007، بين الجيش اللبناني وتنظيم فتح الإسلام المتطرف الذي كان استخدم المخيم مخبأً لعناصره وقيادته. بعد اشتباكات دامية ودمار كبير تمكن الجيش اللبناني من السيطرة بالكامل على المخيم في معركة نهائية حسم من خلالها أزمة المخيم الشمالي.

وتأكد مقتل شاكر العبسي، زعيم التنظيم المتطرف، وأسفرت المعركة عن 158 شخصا من الجيش، وأكثر من 20 مدنيا، فيما يقدر قتلى فتح الإسلام بأكثر من 60.

التوطين: ورقة ضغط سياسي وذريعة للسلاح

في خضم الجدل حول السلاح، يُعاد فتح ملف “التوطين”، وهو قضية شديدة الحساسية في لبنان.

يحذر الباحث هشام دبسي من توظيف هذا الملف سياسياً، مشدداً على أن “الخطر لا يكمن في التوطين بحد ذاته، بل في توقيت طرحه وكيفية استخدامه، حين يتحوّل إلى ذريعة لتبرير بقاء السلاح خارج سلطة الدولة”.

وهذا الملف قائم بشكل أساسي على إحصاءات قديمة تضخّم الوجود الفلسطيني وتجعل منه ثقلاً طائفياً وديموغرافيا وازناً، قد يبدل في حال التوطين موازين طائفية داخلية حساسة. لكن الواقع ان أعداد الفلسطينيين في لبنان تراجعت بشكل كبير بفعل عوامل الهجرة وبسبب صعوبة العيش في المخيمات.

يشير دبسي إلى أن إثارة هذا الملف خارج الأطر الرسمية قد يخدم أجندات القوى المتطرفة، اللبنانية منها والفلسطينية، وخاصة تلك المحسوبة على محور الممانعة، لتبرير استمرارها في حمل السلاح أو لتغذية التوتر الداخلي تحت غطاء “الدفاع عن الحقوق الفلسطينية”.

وفي هذا الصدد، تشير بدر إلى أن الخوف من التوطين ليس مجرد قضية أمنية أو سياسية، بل هو انعكاس عميق للصراع الطائفي على السلطة والموارد في لبنان. فـ “فزاعة التوطين” هي ذريعة دائمة للسلطات اللبنانية لرفض منح الفلسطينيين حقوقهم. لكن هذا الخوف لا يقتصر على الوجود المسلح، بل هو خوف عميق من “تغير الميزان الديمغرافي” في البلاد.

معظم الفلسطينيين الموجودين في لبنان من الطائفة السنية، وتجنيسهم قد يميل الدفة لصالح السنة في لبنان، وهو ما ترفضه المرجعيات الشيعية والمسيحية على حد سواء.

يتفق المحللون والمطلعون على أوضاع المخيمات الفلسطينية في لبنان على أن أي حل لهذه الأزمة لا يمكن أن يكون أمنياً بحتاً. عليه، فلا بد من أن يكون الحل شاملاً ومتعدد الأبعاد، يتجاوز المطالبة بنزع السلاح ليشمل تحسين الظروف المعيشية للاجئين الفلسطينيين، ومنحهم حقوقهم المدنية والإنسانية الأساسية، وإنهاء حالة اليأس التي تشكل أرضية خصبة للتطرف، كما يرى المراقبون.

وفوق كل ذلك، يجب أن يدرك اللبنانيون والفلسطينيون على حد سواء أن مصير المخيمات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة سيادة الدولة اللبنانية وبقدرتها على بسط سلطتها وقرارها على كافة أراضيها.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading