“فيلق أجنبي”.. كيف اخترق الموساد أسرار البرنامج النووي الإيراني؟

منذ أكثر من عقدين من الزمن، يشكّل البرنامج النووي الإيراني أحد أبرز التهديدات التي تؤرق صانعي القرار في إسرائيل.

وفي مواجهة التهديدات، برز جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” كقوة ضاربة في المعركة السرية لعرقلة المشروع ومنع طهران من امتلاك سلاح نووي.

اعتمدت إسرائيل نهج “الإحباط المسبق” بدل الاكتفاء بسياسة الاحتواء، فبدأت منذ أكثر من عشرة أعوام في ضرب البرنامج من الداخل بأساليب متعددة: اغتيال العلماء، شن هجمات إلكترونية، سرقة وثائق سرية، وتجنيد عملاء محليين، قبل أن تنتقل إلى مرحلة الاستهداف المباشر خلال الحرب مع طهران في يونيو الماضي.

يقول الزميل الأقدم في المجلس الأطلسي توم واريك لـ”الحرة” إن “الطريقة التي تنفذ بها إسرائيل عملياتها العسكرية داخل إيران تُظهر أن الموساد اخترق المؤسسة الأمنية الإيرانية بعمق”.

“إسرائيل استخدمت كل الوسائل المتاحة لجمع المعلومات الاستخباراتية حول البرنامج النووي الإيراني،” يضيف.

لكن تبقى الأسئلة قائمة: إلى أي مدى نجحت هذه الاستراتيجية في كبح الطموح النووي الإيراني؟ وكيف تمكنت إسرائيل من الوصول إلى قلب البرنامج بهذا العمق؟ وما شكل الرد الإيراني؟

تغلغل الموساد

خلال حرب يونيو تمكن عملاء إسرائيليون من تحديد غرف نوم العلماء النوويين والقادة العسكريين الإيرانيين، ما سمح بشن ضربات جوية دقيقة للغاية أدت إلى مقتلهم، وفقا للسلطات الإسرائيلية.

من بين العلماء البارزين الذين قُتلوا في هذه الضربات كان محمد مهدي تهرانتشي، رئيس جامعة آزاد الإسلامية، وفيريدون عباسي-دواني، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية.

في حديث مع “الحرة” حول الموضوع، أشار دان رفيف، الصحافي الاستقصائي الأميركي، مقدم بودكاست “ملفات الموساد”، إلى أن الموساد حرص في الأشهر التي سبقت الحرب، على جمع معلومات مفصلة عن عادات ومواقع 11 عالِمًا نوويًا، وتحديدًا في منطقة طهران”.

“تضمنت هذه الملفات حتى خرائط لمواقع غرف النوم في منازل هؤلاء الرجال،” يضيف رفيف، الذي عمل مراسلا لشبكة “سي.بي.أس” الأميركية لأكثر من 40 عاما، وألف العديد من الكتب عن الاستخبارات والأمن الإسرائيلي.

وفقا لدان رفيف، نجح الموساد خلال السنوات الأخيرة في بناء شبكة من “العملاء المحليين” داخل إيران.

“هؤلاء ليسوا إسرائيليين بل إيرانيون أو من جنسيات أخرى، جرى تجنيدهم إما بحوافز مالية أو، بدوافع معارضة للنظام”.

يصف رفيف هذه الشبكة بأنها “فيلق أجنبي”، يشرف على تشغيله عن بُعد ضباط الموساد في الخارج.

ويرى رفيف أن الموساد لم يعد بحاجة لإرسال إسرائيليين إلى داخل إيران، جراء نجاحه في تشغيل هذا العدد من العملاء.

استغرقت إسرائيل سنوات من العمل والهجمات قبل أن تصل لساعة الصفر في يونيو الماضي.

بين عامي 2010 و2012، اغتيل ما لا يقل عن خمسة علماء نوويين إيرانيين في طهران ومدن أخرى، وفقا لوسائل إعلام إيرانية.

وعلى الرغم من أن طهران اتهمت الموساد مباشرة، لم تعترف إسرائيل رسميا بتلك العمليات.

وتعرضت منشآت نووية إيرانية في تلك الفترة، أيضا، لهجمات إلكترونية، أبرزها تلك التي استهدفت منشأة “نطنز” عبر فيروس “ستوكسنت” في 2010، واتهمت إيران في حينها إسرائيل بالوقوف الهجوم.

وقالت وسائل إعلام إسرائيلية في حينها إن الموساد هو من نفذ الهجوم.

ويُعتقد أن الهجوم تسبب في تدمير مئات أجهزة الطرد المركزي، وعرقل تقدم البرنامج النووي الإيراني لأشهر، وربما سنوات.

“هجوم ستوكسنت الإلكتروني تسبب في تأخير كبير في برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني.. ورغم عدم تدمير جميع أجهزة الطرد المركزي في نطنز، إلا أن استبدال الأجهزة التالفة وضمان تأمينها بشكل كامل استغرق بلا شك عدة سنوات،” يقول جون جيلبرت، الخبير في مركز السيطرة على الأسلحة ومنع انتشارها في واشنطن، لـ”الحرة”.

في عام 2018، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو أن الموساد نجح في سرقة مئات الوثائق والملفات الرقمية من أرشيف البرنامج النووي الإيراني في طهران، في ما اعتُبرت واحدة من أكثر العمليات جرأة في تاريخ الموساد.

أسهمت تلك الوثائق، حسب الاستخبارات الغربية، في كشف جوانب خفية من النشاط الإيراني، ودفعت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من الاتفاق النووي في 2018.

وفي عام 2020 استطاعت إسرائيل قتل محسن فخري زاده، الذي يُعتبر مهندس البرنامج النووي الإيراني، بمدفع رشاش يتم التحكم فيه عن بعد.

وتحدثت تقارير غربية عن أن الموساد استخدم تقنيات متقدمة مثل تقنية التعرف على الوجه المعززة بالذكاء الاصطناعي لتوجيه المدفع الرشاش، الذي كان مركونا على جانب الطريق بالقرب من منزل فخري زاده.

يقول جيلبرت إن “إسرائيل نجحت في تجنيد عدد من العملاء الإيرانيين الذين قدموا معلومات بالغة الأهمية على مدى فترة طويلة مستفيدة من قصور في إجراءات الأمن الإيرانية نفسها”.

ماذا يجري داخل إيران؟

ردا على قيام إسرائيل باغتيال أكثر من 30 عالماً وباحثاً نووياً في هجمات يونيو الماضي، اتخذت إيران إجراءات مضادة واسعة لحماية ما تبقى من رأس مالها البشري.

وذكرت مصادر أن طهران تعمل على الحفاظ على علمائها النوويين المتبقين عبر ارسالهم لأماكن اختباء سرية.

تأتي هذه الخطوة وسط مخاوف، غذّتها إحاطات إسرائيلية، من أن مزيدا من عمليات الاغتيال قد تكون وشيكة ضد علماء وباحثين نوويين إيرانيين.

ويقول بهنام بن طالبلو، الباحث في “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات” في واشنطن” إن سعي النظام الإيراني لحماية علمائه “أمر بديهي.. هو يحاول حماية العقول المفكّرة التي يمكن استخدامها لإنتاج سلاح نووي”.

لكن مع ذلك فإن توفير الحماية لهؤلاء ليس بالأمر السهل، بالنظر إلى الطريقة التي تمت بها عمليات الاغتيال الأخيرة لهؤلاء العلماء.

وفقا لبن طالبلو فإن النظام يواجه “معضلة حقيقية بحكم اختراقه العميق منذ فترة طويلة من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو ما يطرح التساؤل حول مدى إمكانية أن تبقى بروتوكولاتهم الأمنية غير مرصودة أو غير مكتشفة”.

بالتزامن مع ذلك، كانت إيران قد أعلنت الأسبوع الماضي تنفيذ حكم الإعدام بحق أحد علمائها النوويين، بتهمة تسهيل اغتيال أحد زملائه خلال حرب الأيام الاثني عشر في يونيو، عبر تمرير معلومات إلى إسرائيل.

وبث التلفزيون الإيراني ما قال إنها اعترافات من روزبه وادي، أشار خلالها إلى أنه أرسل معلومات عن منشأتي فوردو ونطنز لتخصيب اليورانيوم لإسرائيل. وادعت السلطات الإيرانية أن وادي، الحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة النووية من جامعة “أمير كبير” للتكنولوجيا، التقى خمس مرات مع عملاء للموساد أثناء وجوده في فيينا، وطُلب منه فتح حساب بعملة مشفرة لتلقي أموال مقابل خدماته.

وقال وادي في الفيديو إن الموساد وعده بجواز سفر أجنبي إذا أكمل التعاون لفترة طويلة.

وعرض الإعلام الحكومي الإيراني كذلك ورقة بحثية أكاديمية قُدمت في مؤتمر نووي إيراني عام 2012 كتبها وادي بالإضافة إلى أحمد ذو الفقار وعبد الحميد منوشهر، وهما عالمان نوويان قتلتهما إسرائيل في يونيو.

في الوثيقة، جرت الإشارة إلى وادي كباحث نووي في منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وهي أعلى هيئة نووية في البلاد.

وسواء صحت هذه الادعاءات أم لا، فإن ما عرضه التلفزيون الإيراني يُعد اعترافا محرجا بمدى تغلغل جهاز الموساد الإسرائيلي داخل إيران.

يقول توم واريك إن “إيران تقوم بين الحين والآخر باعتقال أو إعدام أشخاص تتهمهم بالتجسس لصالح إسرائيل أو الولايات المتحدة. ومن شبه المستحيل الحكم ما إذا كانت هذه الاتهامات مبنية على أدلة فعلية، أم أنها مجرد وسيلة يستخدمها النظام للبحث عن أكباش فداء”.

وأشار دان رفيف إلى أن مصادره داخل جهاز الموساد تتحدث باستمرار عن نجاحهم في تجنيد وتدريب عملاء غير إسرائيليين موثوقين، وقد يشمل ذلك أشخاصا يعملون داخل البرنامج النووي الإيراني”.

استراتيجية الحماية الإيرانية؟

اعتمدت إيران استراتيجية دفاعية متعددة الطبقات لحماية برنامجها النووي من التهديدات، بما في ذلك الضربات العسكرية المباشرة، والاغتيالات والحرب السيبرانية.

يعد التحصين المادي والدفن العميق للبنية التحتية النووية حجر الزاوية في استراتيجية إيران الدفاعية.

تقع منشأة نطنز النووية، وهي موقع مركزي لتخصيب اليورانيوم، على عمق 40 إلى 50 متراً تحت الأرض، وتحميها دروع خرسانية بسمك 7.6 أمتار و22 متراً إضافياً من التراب لجعله مقاوماً لمعظم الهجمات الجوية التقليدية.

كذلك جرى بناء موقع فوردو في عمق جبل بالقرب من مدينة قم. ويُعتقد أنه مدفونة على عمق 80 إلى 100 متر تحت الأرض ومحمي بخرسانة مسلحة.

هذا يعني أن قنابل إسرائيل الأكثر قدرة على اختراق المخابئ غير كافية لتدمير المنشأة، الأمر الذي تطلب استخدام قنابل أميركية، وهو ما حصل بالفعل إذ استهدفت الولايات المتحدة منشأة فوردو بقنبلتين من طراز GBU-57 الخارقة للتحصينات في يونيو الماضي.

يبدو إن إيران كانت تتوقع تلك الضربات، واستعدت لها مسبقا. إذ ظهر موقع سري ثالث يُعرف باسم “جبل الفأس”، يقع على بعد كيلومترين جنوبي نطنز على عمق ربما يتجاوز 100.

كان هذا المرفق قيد الإنشاء وقت ضربات يونيو 2025، ولم يتم استهدافه.

يُعتقد أن الموقع السري أعمق من موقع فوردو، مع ميزات دفاعية محسّنة مثل مداخل أنفاق متعددة ما يجعل تحييده بالقنابل أكثر صعوبة.

وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد استفسرت عن الأنشطة في “جبل الفأس” في أبريل الماضي، لكن المسؤولين الايرانيين رفضوا التعليق.

وفقا لتقرير نشره “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” في السادس من أغسطس، فإن هذا الموقع ربما يحتوي على 400 كغم من اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة 60 في المئة.

وأشار التقرير إلى أن وجود هذا الموقع الجديد ونشاطه المستمر يمثل تطورا كبيرا في استراتيجية إيران الدفاعية، عبر تبني سياسة “التحصين الكامل” لضمان بقاء برنامجها النووي على قيد الحياة في وجه أية هجمات مستقبلية.

التقرير تطرق كذلك إلى تداعيات مقتل علماء إيرانيين: “قد تكون خسارة الكادر العلمي ذات تأثير عميق على برنامج إيران النووي، على اعتبار أن العلماء المستهدفين كانوا يحملون خبرة غير مكتوبة وتجريبية مطلوبة للمهام المعقدة، مثل تشغيل أجهزة الطرد المركزي ودمج الأنظمة أو حتى انتاج الأسلحة النووية”.

ولفت التقرير أيضا إلى أن المساعي الإيرانية قد تستغرق سنوات من التدريب المتخصص والخبرة لتعلم كيفية بناء وتشغيل الآلات المعقدة، مثل أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم.

وخلص إلى أن استهداف القيادات والعلماء الرئيسيين بغرض “تقويض قاعدة المعرفة النووية يمكن أن يكون مؤثراً بنفس قدر تدمير المنشآت والمعدات، وقد يوسع من جداول زمن إعادة تسليح إيران وإنتاجها”.

في مقابلة مع “الحرة” في مايو، شرح مستشار الأمن الإسرائيلي السابق إيال هولاتا الاستراتيجية التي تتبعها بلاده لتقويض برنامج ايران النووي عبر ثلاثة عناصر هي: منشآت التخصيب، وآلية تحويل المواد وبرنامج التسلح نفسه.

“إذا لم يكن العلماء الرئيسيون موجودين والمنشىآت النووية تضررت، فسيكون من الصعب جدًا عليهم صنع قنبلة،” يقول هولاتا.

يتفق جون جيلبرت مع هذا الطرح ضمنيا.

يقول إن “إجراءات إسرائيل لتعطيل البرنامج النووي الإيراني امتدت لسنوات عديدة، ومع ذلك، حتى في ظل نجاحاتها العديدة، فمن غير المرجح أن تكون قدرة إيران النهائية على تطوير سلاح نووي قد انتهت”.

“كان اغتيال عدد من العلماء الإيرانيين انتكاسة على المدى الطويل، لكن من المرجح أن قاعدة المعرفة بقيت سليمة، ما يعني أن تطوير السلاح قد تأخر، لكنه لم ينتهِ،” يضيف جيلبرت لـ”الحرة”.

غسان تقي

صحفي متخصص في الشؤون العراقية، يعمل في مؤسسة الشرق الأوسط للإرسال MBN منذ عام 2015. عمل سنوات مع إذاعة "أوروبا الحرة" ومؤسسات إعلامية عراقية وعربية.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading