لم تعد أصوات الانفجارات تقتصر على غزة أو جنوب لبنان.
في الدوحة، حيث اعتادت قطر أن تستضيف جولات التفاوض بين حماس وإسرائيل، اخترقت طائرات إسرائيلية السماء بغارة غير مسبوقة استهدفت قيادات الحركة.
أدانت الدوحة “الاعتداء الجبان”، وسارعت عواصم خليجية إلى التحذير من تداعياته، ووصفه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب بـ”المؤسف”.
بالنسبة لكثيرين، بدا الهجوم بمثابة لحظة فارقة قد تعيد رسم حدود الصراع وتبدد ما تبقى من جهود الوساطة لوقف الحرب في القطاع الفلسطيني.
الهجوم على الدوحة يندرج ضمن مسار أوسع بدأت ملامحه تتوضح منذ السابع من أكتوبر، حين تحولت أولويات إسرائيل وحلفائها من السعي نحو التطبيع إلى معادلة “الأمن أولا”.
كانت عبارات مثل “السلام الإقليمي” و”الشراكات الاقتصادية” تتردد باستمرار على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، وكأنها مفاتيح المستقبل.
لكن في أحد الصباحات، تحديدا في السابع من أكتوبر 2023، تبخرت هذه الكلمات وحل محلها صوت جديد وواضح: “الأمن أولا”، وقبل كل شيء.
وبالتوازي، لم ينهِ السابع من أكتوبر مسار التطبيع العربي – الإسرائيلي، لكن غيّر مضمونه. فبدلا من الدبلوماسية العلنية والتعاون الاقتصادي، انتقل التركيز إلى تنسيق أمني سري، إلى حد ما، يتغذى على مخاوف مشتركة من إيران، فيما بقيت القضية الفلسطينية عقدة رئيسية أمام أي محاولة باتجاه التطبيع الكامل.
“يجب في البداية أن ننهي المهمة في غزة، نحرر الرهائن ونهزم حماس، وبعدها نفكر بالخطوة المقبلة،” يقول رئيس الأبحاث السابق في المخابرات العسكرية الإسرائيلية يوسي كوبر فاسر لـ”الحرة” في مقابلة أُجريت قبل الغارة الإسرائيلية على قطر.
ما بعد 7 أكتوبر
في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، شهدت المنطقة العربية والشرق الأوسط تحولا جذريا.
السلام الذي كان يُفهم تقليديا عبر المفاوضات الدبلوماسية والتسويات السياسية، لم يعد الهدف الأسمى بالنسبة لإسرائيل وحلفائها المحتملين.
فبعد نحو خمس سنوات من توقيع اتفاقات أبراهام يظهر اتجاه جديد في إسرائيل يُعطي الأولوية للأمن على الدبلوماسية ويضع أسساً جديدة للتعاون والتحالفات الإقليمية.
“بمجرد أن ننهي المهمة في غزة، يمكننا التركيز على ترجمة التغييرات التي تمكنا من تحقيقها، بالتعاون مع الأميركيين (اتفاقات أبراهام) إلى وضع استراتيجي أفضل للجميع في الشرق الأوسط،” يضيف فاسر لـ”الحرة”.
في عام 2020، شهد العالم اختراقا دبلوماسيا غير مسبوق في الشرق الأوسط تمثل باتفاقات أبراهام، حيث ذهبت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل بوساطة من واشنطن.
فتحت هذه الاتفاقات عهدا جديدا من التعاون السياسي والاقتصادي، حيث ركزت الدول المعنية في السنوات التي تلت ذلك على دبلوماسية اقتصادية وسياسية تضمنت زيادة التبادل التجاري والاستثمارات والسياحة والاعتراف الرسمي المتبادل.
سارت الأمور بشكل جيد بين هذه الدول، وبدأ الحديث يتزايد عن قرب انضمام دول أخرى عربية لهذه الاتفاقات، وفي مقدمتها السعودية.
لكن “الصدمة” التي تعرضت لها إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر غيرت كل شيء.
“لا أظن أن هناك أحدا في إسرائيل يشكك في الأهمية العامة والمستقبلية لتطوير علاقات إيجابية مع دول عربية جديدة أو تعزيز علاقات دول اتفاقات أبراهام. لكن عمليا، أعتقد أن هذا الأمر تراجع إلى المرتبة الثانية أمام ضرورة خوض الحرب في غزة والفوز بها،” يقول دان فيفرمان أحد مؤسسي منظمة “شراكة” الإسرائيلية-الخليجية.
تحت الطاولة
بناءً على المعلومات المتاحة، لا توجد أي اتفاقيات أمنية رسمية وعلنية تم توقيعها بين إسرائيل ودول عربية بعد أحداث أكتوبر 2023.
ومع ذلك، تشير تقارير إعلامية وتحليلات استخباراتية إلى وجود تعاون أمني واستخباراتي سري، وربما متزايد، بين إسرائيل وبعض الدول العربية، خاصة تلك التي لديها مخاوف مشتركة من التهديدات الإيرانية.
فعلى الرغم من الإدانة العلنية للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، استمرت الاجتماعات والتنسيقات الأمنية خلف الكواليس، وفقا لخبراء.
أفادت بعض التقارير بوجود اجتماعات بين مسؤولين عسكريين واستخباراتيين إسرائيليين مع نظرائهم من دول عربية مختلفة، خاصة دول الخليج، تحت رعاية أميركية.
تركز هذا التعاون على مواجهة التهديدات الإقليمية، مثل الطائرات المسيرة والصواريخ التي تطلقها جماعات مدعومة من إيران. وظهر هذا التعاون بشكل واضح خلال الهجوم الإيراني على إسرائيل في أبريل 2024، حيث أشارت تقارير إلى أن الأردن والسعودية ودول أخرى ساهمت في اعتراض الصواريخ والطائرات المسيرة التي عبرت مجالها الجوي.
يصف محللون الوضع الراهن بأنه “سلام بارد” أو “تطبيع أمني”، إذ تراجعت مظاهر التطبيع العلنية مثل السياحة والتبادل الثقافي بسبب الغضب الشعبي العربي، لكن القنوات الأمنية والاستخباراتية ظلت مفتوحة، بل أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى.
وبشكل عام، يمكن القول إن أحداث 7 أكتوبر لم تؤدِ إلى توقيع اتفاقيات أمنية جديدة معلنة، لكنها دفعت بالتعاون الأمني القائم بالفعل إلى مستوى أكثر عمقا وسرية، مع التركيز على بناء جبهة مشتركة ضد التهديدات الإقليمية.
“هناك ترتيبات أمنية قائمة مسبقا بين إسرائيل ودول خليجية رئيسية ومعظمها يجري تحت الطاولة، مع الإماراتيين، وأنا متأكد مع السعوديين أيضا،” يقول ميلر.
“الترتيبات الأمنية بين إسرائيل والدول العربية الرئيسية، باستثناء مصر وربما الأردن، أشبه بجبل جليدي، ربعه ظاهر فوق الماء، لكن ثلاثة أرباعه تحت السطح،” يضيف.
ويتابع ميلر: “رأيت في أبريل 2024، ورأيت مرة أخرى خلال الحرب التي استمرت 12 يوما، درجة من التعاون بين دول الخليج في التنسيق الدفاعي المضاد للصواريخ. هذا أمر مدهش للغاية، وغير مسبوق في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي أن تعمد الدول العربية لتقديم معلومات استخباراتية لإسرائيل”.
كان الحديث عن مثل هذه التقارب “أشبه بالحلم” قبل سنوات قليلة، لكنه اليوم تحول لواقع.
“يمكننا أن نحلم بكل أنواع الترتيبات الأمنية مع جيراننا، والتي قد تُترجم لاحقاً إلى تطبيع تدريجي للعلاقات معهم، وربما تنتهي بعلاقات دبلوماسية،” يقول فاسر.
“يمكن أن يتم ذلك مع سوريا، ويمكن أن يتم مع لبنان. وبالطبع يمكن أن يتم مع بقية دول الخليج، وخاصة السعودية وعُمان،” يضيف.
“القضية الفلسطينية”
هناك تحديات كبيرة تواجه التطبيع مع إسرائيل، وعلى رأسها ملف “القضية افلسطينية”.
في الرياض، كانت القيادة السعودية تراقب الوضع عن كثب، وكانت المملكة على وشك توقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل قبل أحداث أكتوبر، لكن الهجوم أوقف هذه العملية مؤقتا.
ولسنوات طويلة، كانت المملكة العربية السعودية تُعتبر أحد أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية.
“لا يمكن لإسرائيل أن تطور منظومة أمنية إقليمية شاملة من دون معالجة القضية الفلسطينية بشكل كامل،” يقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نيويورك ألون بن مئير.
“في الواقع، أعتقد أن السعوديين على سبيل المثال أوضحوا بشكل جلي أنهم لن يشاركوا في أي مفاوضات جوهرية مع إسرائيل، ويربطون مسألة التطبيع بأي شكل من الأشكال بوجود مسار واضح نحو حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني،” يضيف بن مئير لـ”الحرة”.
لكن على الأرض، من السعودية إلى الإمارات والبحرين ومرورا بالأردن ومصر وانتهاء بسوريا ولبنان، جميع هذه الدول باتت تتعامل مع إسرائيل بشكل أو بآخرـ ولم تنقطع علاقاتها حتى بعد اندلاع الحرب في غزة.
“هناك أفضل علاقة إسرائيلية – لبنانية على الإطلاق وقد يكون هناك حتى جهد من جانب الحكومة اللبنانية والإسرائيليين لترسيم الحدود، وهناك مزيد من التنسيق بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي بوساطة أميركية،” يقول ميلر.
“مع سوريا، هناك اتصالات غير رسمية استثنائية بين حكومة أحمد الشرع وحكومة بنيامين ونتنياهو”.
وعلى الرغم من الحرب في غزة فإن العلاقات بين مصر والأردن، اللتين ترتبطان بمعاهدات سلام مع إسرائيل، لا تزال قائمة. كذلك ينطبق الأمر مع البحرين والإمارات.
من تبقى؟ يتساءل ميلر. “قطر، عمان، العراق، وإذا كان بالإمكان إيجاد طريقة، ربما سيستفيدون من بعض التدابير التنسيقية مع الإسرائيليين،” يضيف.

غسان تقي
صحفي متخصص في الشؤون العراقية، يعمل في مؤسسة الشرق الأوسط للإرسال MBN منذ عام 2015. عمل سنوات مع إذاعة "أوروبا الحرة" ومؤسسات إعلامية عراقية وعربية.


