سكاي نت الصيني.. القمع بالخوارزميات

في أورومتشي، عاصمة إقليم شينجيانغ غرب الصين، لا تضيء مصابيح الشوارع بقدر ما تلمع الكاميرات المعلقة عند كل زاوية.

امرأة إيغورية خمسينية توقفت أمام إشارة المرور. العدسة فوق رأسها لا تلتقط صورة فقط؛ إنها تقرأ ملامحها، تراقب حركتها، وتخمّن إن كانت “مواطنة صالحة” أم “شخصا موضع شك”.

هذا المشهد لم يعد استثناءً يخص 12 مليون مسلم من الإيغور يعيشون في شينجيانغ، ولا حتى سكان الإقليم الـ25 مليونا فقط.

هذا صار واقعا يوميا لمئات الملايين من الصينيين.

لكن ما يجري في شينجيانغ هو أكثر من مراقبة داخلية. إنه مختبر لدولة عظمى تسعى لتصدير نموذجها الرقمي، في وقت تتسابق فيه حكومات عدة لاعتماد تقنيات مماثلة تحت شعار الأمن والاستقرار.

وفقًا لوزارة الأمن العام الصينية، تجاوز عدد الكاميرات المتصلة بمنصات المراقبة 700 مليون كاميرا (الرقم يعود إلى العام 2021، ولم تتوفر بيانات محدثة).

تعمل الكاميرات في خدمة مشروع “سكاي نت”، الذي وصفته صحيفة الشعب اليومية الرسمية بأنه “ابتكار ضروري لتعزيز الاستقرار ومكافحة الجريمة”.

لكن خبراء مثل فالنتين ويبر، المتخصص في الأمن السيبراني، يرون صورة مغايرة:

“ما نشهده في الصين ليس مجرد نظام أمني. إنه سلطة رقمية متقدمة، الأضخم والأكثر إثارة للقلق في العالم” قال لـ “الحرة”.

مشروع “سكاي نت” وكاميراته ليست إلا جانبا واحدا من “السلطة الرقمية” الصينية.

الحكاية بدأت في شينجيانغ لكنك قد تعيش بعض فصولها دون أن تعرف.

شينجيانغ… مختبر الدولة

هنا شينجيانغ، حيث نصف السكان مسلمون من الإيغور.

هنا نقاط تفتيش بوليسية تقطع الطرق، وتطبيقات هاتفية للرقابة تسكن الهواتف إجباريا. وهنا أيضا، فحوص بيومترية في المدارس، ويد السلطة تصل كل مكان.

في قلب المنظومة تعمل منصة IJOP (العمليات المشتركة المتكاملة).

تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش كشف أن المنصة تجمع بيانات من الكاميرات، محطات الوقود، عدادات الكهرباء، وحتى أبواب المنازل المزودة بكودات مسح. أي انحراف عن الروتين، تأخر متكرر، سفر مفاجئ، أو تردد زائد على المساجد، قد يُترجم إلى “إشارة خطر”.

مثلا، معلمة لغات من أورومتشي، اسمها قلبنور صديق، كانت تدخل الصف بثوب أزرق طويل وتوزع الحلوى على طلابها في الأعياد الإسلامية. تلقت استدعاءً من الشرطة في ربيع 2019. خرجت، ومنذ ذلك الحين لم تعد.

أما إكبار أَسات فأسس موقعا ثقافيا باللغة الإيغورية. حُكم عليه بالسجن 15 عاما بتهمة “التحريض على الكراهية العرقية”.

“النظام يعاقب الناس على أنماط حياتهم اليومية. تغيير طريق العودة أو لقاء عائلي قد يُعتبر مؤشرًا على انحراف ويضع صاحبه تحت المراقبة،” يقول يالكُن أولويوول، الباحث في منظمة هيومن رايتس ووتش لـ “الحرة”.

عام 2022، سرّبت ملفات شرطة شينجيانغ صورا ووثائق من داخل مراكز الاحتجاز: أوامر بإطلاق النار على من يحاول الهرب، جداول تدريب لحراس مسلحين، وآلافا من صور معتقلين، كثير منهم احتُجزوا بسبب ممارسات بسيطة مثل السفر أو الاحتفاظ بمصحف.

شياو تشيانغ، الباحث في قضايا التكنولوجيا، الخبير في الشأن الصيني، أوضح لـ “الحرة”:

“شينجيانغ ليست فقط منطقة مضطربة. إنها مختبر لتطوير أدوات المراقبة. ما يُجرَّب هناك اليوم، يُطبَّق غدًا على باقي الصين”.

كيف تعمل الآلة؟

لفهم منظومة الضبط الصينية، يمكن تبسيطها في ثلاث حلقات مترابطة:

أولا، الهوية الرقمية، القانون الصيني يفرض التسجيل بالاسم الحقيقي لكل خدمة اتصالات أو إنترنت. أي هاتف أو حساب مرتبط مباشرة ببطاقة الهوية.

ثانيا، الرصد اللحظي، الكاميرات الذكية تلتقط الوجوه وتطابقها مع قاعدة البيانات الوطنية في ثوانٍ.

ثالثا، التحليل السلوكي، منصات مثل IJOP تدمج هذه البيانات مع أنماط استهلاك الكهرباء أو التنقل أو حتى علاقات الجيرة.

وتتيح شركات عملاقة مثل “هيكفيجن” و”داهوا” برمجيات لإرسال “إنذارات خاصة” لرصد تجمعات أو حتى سمات إثنية. الشركتان نفتا الاتهامات، لكن عقودًا رسمية أظهرت ارتباطهما بوزارة الأمن العام.

“المشكلة ليست في الكاميرا نفسها، بل في دمجها مع قواعد الهوية والمعاملات البنكية. عندها تصبح وسيلة حكم، لا مجرد رصد” يقول خبير الأمن السيبراني فالنتين ويبر لـ”الحرة”.

صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية، تقول إن هذا النظام “يعزز الأمن الوقائي ويتيح التدخل السريع قبل وقوع الجريمة”.

لكن منظمات حقوقية تحذر من أن “الأمن الوقائي يتحول عمليًا إلى عقاب استباقي”.

“قد تُمنع من دخول مستشفى أو تسجيل ابنك في مدرسة… ليس بقرار قضائي، بل بضغطة زر”. يؤكد عمر طبش، خبير تكنولوجيا المعلومات لـ “الحرة”.

طلبنا ردا رسميا من وزارة الخارجية الصينية حول ضوابط الخصوصية ومعايير التظلم. حتى وقت نشر هذا المقال، لم يصل أي رد.

يالكُن أولويوول، الباحث في منظمة هيومن رايتس ووتش لـ “الحرة”.

تصدير التجربة

المنظومة الصينية لم تتوقف عند حدودها الداخلية.

ففي تقرير أصدره راديو أوروبا الحرة في مايو 2024، تَبيَّن أن معدات شركتي “هيكفيجن” و”داهوا” انتشرت في أكثر من 60 دولة عبر آسيا وأوروبا الشرقية. بعض هذه الأنظمة وُظِّف في أكثر من 28 منشأة عسكرية في رومانيا، إلى جانب مؤسسات عامة، ما أثار نقاشًا واسعًا حول أمن البيانات والسيادة الرقمية.

وفي الشرق الأوسط، بدأت مدن جديدة في الخليج ومصر تتبنى هذه التقنيات ضمن مشاريع “المدن الذكية”.  قانون الجرائم الإلكترونية المصري (أقر عام 2018) يصفه باحثون حقوقيون بأنه “يحمل بصمة النموذج الصيني” عبر تعريفات واسعة تسمح بملاحقة منشورات بسيطة على الإنترنت.

“الأمر لا يقتصر على التكنولوجيا. إنه يشمل الأفكار التي تُصدَّر معها. دول تبحث عن السيطرة على المجال العام ترى في التجربة الصينية مرجعًا جاهزا،” يقول يالكُن أولويوول من “هيومن رايتس ووتش” لـ”الحرة”.

تعد المنظومة الصينية بأداء فعال في مواجهة الجريمة والإرهاب. لكن المعايير التي تحدد من هو “الصالح” ومن هو “المشبوه” تبقى غامضة وواسعة، تسمح للحكومة بتغيير التصنيف بين ليلة وضحاها.

“يمكن أن تكون اليوم في القائمة الخضراء، وغدا في القائمة السوداء،” يقول الباحث شياو تشيانغ لـ “الحرة”.

هذا القلق لم يعد صينيا فقط.

ومع انتشار هذا النموذج إلى خارج الصين، يبقى السؤال: هل يصبح أداة جاهزة للسيطرة والقمع، أم حافزا لإعادة رسم الحدود بين التكنولوجيا وحرية المجتمعات والأفراد؟

هدى البوكيلي

هدى البوكيلي صحفية استقصائية مغربية مقيمة في الولايات المتحدة، حائزة على عدة جوائز دولية. تحمل شهادة ماجستير في الصحافة والإعلام المؤسساتي من المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، وإجازة في علوم الاقتصاد من جامعة القاضي عياض بمراكش.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading