من بليدا الى البقاع، ومن قواعد القرار العسكري في تل أبيب إلى الخطوط الأمامية في الجنوب اللبناني، تتكشف ملامح معركة ليّ للأذرع بين إسرائيل و”حزب الله”، هدفها كما تقول تل أبيب: منع إعادة بناء قوة الحزب ومنع تشكيله تهديدا لها.
في المقابل، تقول مصادر إسرائيلية لـ”الحرة” إن التنظيم لا يزال ينجح في استغلال المسارات السورية لتهريب السلاح، فيما تتعامل إسرائيل معه بسياسة “الاحتواء النشط” – اغتيالات، ضربات للبنى المدنية المستخدمة عسكريًا، وتنسيق دولي ضاغط.
إسرائيل تكشف معلومات أمام الأميركيين
في اجتماعات مغلقة عُقدت في تل أبيب هذا الأسبوع، أبلغت إسرائيل وفودا أميركية رفيعة بأن “حزب الله” نجح خلال الأشهر الأخيرة بتهريب مئات الصواريخ قصيرة المدى من سوريا إلى لبنان، فيما تعتبره الحكومة ومتخذو القرار خرقا مباشرا للاتفاق الأمني القائم. هيئة البث الإسرائيلية كشفت أن المستوى السياسي طالب واشنطن بمواصلة دعم الضربات الاستباقية في لبنان، مشيرة إلى أن بعض عمليات التهريب أُحبطت بالفعل، لكن أخرى وصلت إلى الجنوب بما يشمل مئات الصواريخ قصيرة المدى.
التحذير الإسرائيلي جاء مدعوما بمعلومات من الميدان. ووفق ما قاله طال بئيري، رئيس وحدة الأبحاث في معهد “الما” للدراسات، فإن التهريب تم عبر المعابر غير النظامية في منطقة القصير – حمص، التي لا تزال نقطة ربط حساسة في “الممر الإيراني” لتوريد السلاح، رغم انهيار النظام السوري السابق.
يضيف بئيري لـ”الحرة”: “رغم سقوط النظام، لا يزال هذا الممر يعمل محليًا. هناك شحنات تمر كل أسبوع تقريبا. بعضها يُكتشف، لكن أخرى تنجح. وحزب الله، رغم التحديات، لا ينسحب من هذه البيئة”.
تكشف معلومات خاصة حصلت عليها “الحرة” من مصدر أمني أن إسرائيل تنفذ ضربات دقيقة ضمن ما تسميه “الاحتواء النشط”، وتستند في جزء من عملياتها إلى معلومات استخباراتية.
المصدر قال: “ننفّذ ضربات دقيقة ضد كل من يسهم في إعادة ترميم حزب الله، ونكبّده خسائر اقتصادية وعسكرية باهظة”، مضيفًا: “حزب الله كما هو معروف يعمل تحت غطاء مدني، ونحن نوجّه له ضربات موجعة” خصوصا في الأيام الأخيرة.
وأضاف أن هناك حديثا عن احتمال التصعيد، لكنه أكد أن خط القرى الأول والثاني مدمّران كليًا، وسرعة إعادة بناء الحزب أبطأ مما يتم عرضه. واعتبىر أن نوايا الحزب لم تتغير، لكنه تلقى ضربة قاسية في الحرب وما تلاها من عمليات.
وأشار إلى أن من بين أبرز الضربات الأخيرة، هجوما على مقلع للإسمنت استُخدم “كساتر لبناء تحصينات عسكرية”.
في حين ان إسرائيل تقول انها تحرص على إثبات التورط المدني قبل الاستهداف، ونعمل على فضح كل منشأة تُستخدم للبنية الإرهابية على حد وصف الجيش.
جولة أورتيغوس برفقة كاتس
الأنباء التي أوردتها هيئة البث تأتي بالتوازي مع زيارة أجرتها مبعوثة الرئيس الأميركي إلى لبنان، مورغان أورتيغوس، الأحد الماضي برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، شملت الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان ومنطقة “مسغاف عام”.
ووفق بيان رسمي من وزارة الدفاع الإسرائيلية، شارك في الجولة أيضًا سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، والسفير الإسرائيلي في واشنطن، وقائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، إلى جانب ضباط من “سنتكوم” ومجلس الأمن القومي.
وخلال الجولة، تلقّت أورتيغوس إحاطة أمنية من قادة الجيش عن أنشطة حزب الله ومحاولاته إعادة ترميم قدراته. وفي ذروة الجولة، نُفّذت ضربة جوية قتلت عنصرين من “قوة الرضوان”، وصفتهما تل أبيب بأنهما كانا يعيدان بناء بنية تحتية عسكرية قرب الحدود.
كاتس، الذي وصف الدعم الأميركي بـ”الاستثنائي”، شكر الرئيس دونالد ترامب والمبعوثة أورتيغوس على “الوقوف إلى جانب إسرائيل في الدفاع عن بلداتها الشمالية”، مؤكدا بصورة علنية: “سنواصل منع إعادة بناء حزب الله لقدراته العسكرية، بكل الوسائل”.
تكثيف القصف الإسرائيلي
وهنا تتواصل بالفعل استهدافات الجيش الإسرائيلي، التي يقول إنها تنفيذ لبنود اتفاق وقف إطلاق النار، الذي من المفترض أن يحول دون إعادة بناء قدرات لحزب الله في لبنان، في حين أن الطرف الآخر يراه خرقا غير مبرر من قبل إسرائيل لاستمرار عدوانها على لبنان.
وبموازاة الجهود الأميركية للتفاوض المباشر بين لبنان وإسرائيل والتوسط لإنهاء حالة الحرب، تكثّف إسرائيل قصف مواقع في لبنان.
وفي آخر تحديث صدر عن الجيش الإسرائيلي اليوم الخميس، قال إنه خلال ساعات الليلة الماضية، وفي إطار نشاط لتدمير بنية تحتية إرهابية تابعة لحزب الله في منطقة قرية بليدا بجنوب لبنان، رصدت القوات مشتبهًا به داخل المبنى، حيث شرعت القوة في الإجراءات الهادفة لتوقيفه.
لحظة تحديد تهديد مباشر على أفراد القوة، تم إطلاق نار لإزالة التهديد وتمّ رصد إصابة.
وأكد الجيش أن المبنى استخدم مؤخرا “لنشاطات إرهابية تحت غطاء مدني”، مضيفا: “هذا نموذج لطريقة عمل حزب الله التي تعرّض سكان لبنان للخطر”.
وفي بيان منفصل، قال الجيش إنه أغار على “بنية تحتية إرهابية، ومنصة إطلاق وفتحة نفق تابعة لحزب الله في منطقة المحمودية”، معتبرا أن هذه المواقع تمثل خرقًا للتفاهمات القائمة.
أداء الآلية الدولية
تعتبر إسرائيل أن التنسيق الدولي هو الوسيلة الأنجع حاليا لاحتواء قدرات حزب الله. وتشير معطيات خاصة حصلت عليها “الحرة” إلى أن إسرائيل قدّمت 1758 بلاغًا في إطار الآلية الدولية، 840 منها طالبت بتدخل مباشر من الجيش اللبناني، فيما أبلغت عن 850 بعد تنفيذ عمليات ميدانية.
وقال الجيش اللبناني إنه تعامل مع 528 حالة، بينما اضطرت إسرائيل للتصرف بنفسها في 88 حالة. كما تم تسجيل 623 حالة “إنفاذ ذاتي” من الجانب اللبناني، وأغلقت 31 حالة لعدم الصلة.
ورغم إشادة الجانب الإسرائيلي بجهود الجيش اللبناني، أشار إلى أن “وتيرة العمل بطيئة، وتكاد تنعدم داخل القرى، فيما نشهد تحسنًا طفيفًا فقط في المناطق المفتوحة”.
صمت حزب الله ومخاطر التصعيد
وفي الأثناء التي تتم فيها عمليات القصف الإسرائيلي على لبنان، يُطرح السؤال: لماذا لا يرد حزب الله على ما يعتبره خروقات إسرائيلية؟
يقول طال بئيري إن “مصلحة حزب الله حاليًا هي الحفاظ على الهدوء وإعادة ترتيب أوراقه، لكنه قادر على تنفيذ عمليات إذا قرر ذلك، وإن كانت محدودة مقارنة بما قبل أكتوبر”.
ويرجّح أن “مبادرات محلية من قادة ميدانيين” قد تشعل التصعيد مجددًا.
ويبدو أن إسرائيل لا تراهن على قدرة الدولة اللبنانية في كبح حزب الله. وبحسب الباحث الإسرائيلي، فإن غياب السيطرة يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
التركيبة الديمغرافية: وجود نسبة كبيرة من الشيعة داخل لبنان، ما يمنح الحزب قاعدة اجتماعية واسعة.
الخوف من اندلاع حرب أهلية: أي مواجهة داخلية مع حزب الله قد تشعل صراعًا داخليًا شاملًا.
القيود على تحرك الجيش اللبناني: ضعف إمكاناته، والضغوط السياسية والطائفية التي تحدّ من قدرته على فرض سلطته في الجنوب.
زيارة مرتقبة لرئيس الأركان الأميركي
وفي ضوء التصعيد، تُرتقب زيارة لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال دان كين، إلى إسرائيل نهاية الأسبوع، تشمل مناقشة الملف اللبناني، وتدهور الوضع مع إيران، وقد تتضمن زيارات ميدانية إلى القاعدة الأميركية في كريات غات وربما إلى قطاع غزة.
ختامًا، يظهر أن إسرائيل تسعى إلى فرض معادلة جديدة في شمالها، قوامها الردع الوقائي والضربات الدقيقة، في محاولة لإعادة رسم “الخطوط الحمراء”، مع حزب الله قبل أن تتكرّس وقائع ميدانية جديدة. فالمواجهة لم تعد محصورة بحدود لبنان، بل باتت جزءًا من صراع أوسع على طبيعة النفوذ الإيراني في الإقليم، وعلى دور واشنطن في ترسيم موازين القوة المقبلة. ومع أن الطرفين يبدوان حريصين على تجنّب حرب شاملة، إلا أن هشاشة التفاهمات، وكثافة الضربات المتبادلة، تجعل احتمال الانفجار الشامل قائمًا في أي لحظة – في معركةٍ تتجاوز الجغرافيا إلى اختبار الإرادات.



