من يتأمّل في أسماء أبناء مروان البرغوثي، القيادي الفلسطيني في حركة “فتح” الذي يمضي منذ العام 2002 خمسة أحكام بالسجن المؤبد في إسرائيل، يأخذ فكرة كافية عن ثوابت هذا الرجل المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فقد أسمى البرغوثي ابنه البكر “القسّام” على اسم الداعية الأسلامي والمناضل السوري ضد الانتداب الفرنسي عز الدين القسّام، الذي أطلقت حركة “حماس” اسمه على جناحها العسكري، وأسمى ابنه الثاني شرف، والثالث عرب، وأعطى ابنته اسم رُبى.
في كتاب مذكراته، المكتوب بلغة غاضبة ومباشرة، والذي أصدره من داخل السجن بعنوان “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي” (2011)، يشرح البرغوثي للضابط الإسرائيلي الذي حقق معه، أسباب اختياره أسماء أولاده:
“القسّام لأنني أحب عز الدين القسّام، وهو رمز خالد يجب أن يعيش في قلوبنا… والقسام مولود قبل ميلاد حماس وكتائب القسام أصلا… أما شرف، فعلى اسم زميل لي قتلته قوات الاحتلال، وكان يدرس معي في جامعة بير زيت، وهو صديقي ويدعى شرف الطيبي من سكان خان يونس، وكان في السنة الخامسة كلية الهندسة، وذهب ضحية لرصاصكم الجبان… أما عرب، فلأنني عربي، وأعتز بكوني عربياً رغم كل المرارة من الوضع العربي… أما ربى، فلأنني أحب الأرض، وربى هي جمع رابية ومعناه قمم التلال أو ما ارتفع عن الأرض…”.
يمثل مروان البرغوثي، المولود عام 1958، المفارقة الفريدة في صميم السياسة الفلسطينية المعاصرة: قائد يقضي خمسة أحكام بالسجن المؤبد في سجون إسرائيل، ومع ذلك يظل الشخصية الأكثر شعبية والأكثر قدرة على توحيد الفلسطينيين في حقبة ما بعد محمود عباس. بصفته عضواً منتخباً في المجلس التشريعي الفلسطيني منذ عام 1996، يشكّل نشاط البرغوثي السياسي المستمر من خلف القضبان دليلاً على قوته الرمزية. وقد عزز من ذلك كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن احتمالية إطلاق سراحه، بوصفه من القلة القادرة على توحيد الفلسطينيين وقيادتهم في المرحلة المقبلة. لكن القرار النهائي بشأن إطلاق سراحه سيكون في يد إسرائيل.
تؤكد بيانات استطلاعات الرأي باستمرار على التفويض الشعبي الكبير الذي يحظى به البرغوثي. التقرير الأخير لمؤسسة استطلاعات الرأي والأبحاث المسحية (صادر في 25 أكتوبر 2025)، يشير بوضوح إلى أن البرغوثي يتفوق على كافة المنافسين على القيادة.
تنبع هذه الشعبية الجارفة في المقام الأول من تضخيم غيابه السياسي. فببقائه سجيناً لأكثر من 20 عاماً، أصبح البرغوثي في معزل عن الفساد السياسي والاقتصادي المنهجي الذي شلّ السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة فتح، بحسب المدير التنفيذي لمؤسسة الدفاع والديمقراطية، جوناثان شانزر لـ”الحرة”.
وعلى ذلك، يتفق مع البروفيسور كوبي مايكل، الباحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يشير إلى أن عزلة البرغوثي القانونية تمنحه شرعية سياسية، ويتم استثمار الإحباط الشعبي الواسع النطاق في الشارع الفلسطيني مباشرة في رصيد البرغوثي، ما يحول وضعه كسجين إلى رصيد سياسي قوي.
تنبع مكانة البرغوثي من قيادته للحراك الشعبي الفلسطيني في مراحل حساسة من تاريخه، فقد اكتسب شرعيته كقائد رئيسي في كل من الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث عمل رئيساً لفصيل التعبئة المسلح التابع لفتح (التنظيم) ومسؤولاً كبيراً في “كتائب الأقصى”، المصنفة كـ”جماعة إرهابية”، والتي فكّت ارتباطها بحركة “فتح” عام 2007.
بعد اعتقاله في عام 2002، أُدين في عام 2004 في ما يتعلق بهجمات أسفرت عن مقتل خمسة اسرائيليين، ما أدى إلى أحكامه الحالية بالسجن المؤبد، ورفض البرغوثي الاعتراف بشرعية المحكمة الإسرائيلية.
في السنوات الأخيرة، أصبحت صحة البرغوثي محور تركيز، وأظهرت لقطات بثها وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير، البرغوثي، البالغ من العمر 66 عاماً، شاحباً ونحيفاً بشكل واضح، وقد فقد وزناً كبيراً أثناء احتجازه. ويصل الأمر ببعض أنصار البرغوثي إلى تشبيهه بنيلسون منديلا، محرر جنوب افريقيا من العنصرية.
مع ذلك، فإن “تمجيد العنف” يمنحه ميزة سياسية فريدة وشعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني في منافسة “حماس”، ولو أن الرجل في العمق لا يعتبر نفسه منافساً للحركة التي نفذت هجمات السابع من أكتوبر 2023. وبحسب خبراء ومحللين تحدثت إليهم “الحرة”، توفر له سيرته الذاتية المقاومة المصداقية اللازمة ليتمكن من تقديم تنازلات صعبة ومستقبلية مع إسرائيل، وهو ما لا يمكن لشخصيات أقل راديكالية، يتهمها الجمهور الفلسطيني بالفساد أو بالتعاون مع إسرائيل، أن تتحمله.
ويشير أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وإفريقيا في جامعة تل أبيب إيال زيسر إلى أن إطلاق سراحه سيكون “مهماً للغاية”، وقادراً على تغيير “ميزان القوى داخل السلطة الفلسطينية وبين منظمة التحرير الفلسطينية وحماس، لأنه يتمتع بشعبية كبيرة، كما انه يتحدر من الضفة الغربية وإطلاق سراحه قد يعني إعادة احياء حل الدولتين، الذي تعارضه الحكومة الإسرائيلية الحالية”.
إحياء حل الدولتين، يحيي معه النقاش حول ازدواجية البرغوثي، فقد كان مدافعاً ثابتاً عن حل الدولتين، وهو موقف تم تأكيده في وثيقة الأسرى الفلسطينيين المؤثرة لعام 2006، التي حرض عليها وشارك في تأليفها، وحصل على دعم حتى من حماس.
ومع ذلك، يشدد البرغوثي في تصريحاته ومذكراته التي سبقت الإشارة إليها، على “المقاومة المسلحة لحل النزاع”. والأهم من ذلك، حافظ البرغوثي على غموض استراتيجي في ما يتعلق بنيته المستقبلية المرتبطة بالسلام مع إسرائيل، مع انه في مكان ما في مذكراته، يقول إن الولايات المتحدة وإسرائيل ضيعتا فرصة استثنائية للسلام متمثلة بياسر عرفات.
في هذا السياق، يؤكد جون هانا، الباحث في معهد “يهود من أجل الأمن القومي الأميركي”، أن البرغوثي “فشل في توضيح نواياه” بشأن القضايا الحاسمة والضرورية للسلام، مثل نبذ الكفاح المسلح، وقبول نزع السلاح، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
هانا كان ممن تابعوا البرغوثي عن كثب في أوائل الألفية الثانية، وهو يدرك تأثير البرغوثي الكبير بين الفلسطينيين العاديين، ولكن يشير أيضاً، أن البرغوثي “كان قائداً متورطاً بشكل عميق في العنف والإرهاب خلال الانتفاضة الثانية كقائد في فتح لجماعات مسلحة مثل كتائب الأقصى والتنظيم، الحقيقة هي أن البرغوثي كان غارقاً حتى أذنيه في منظمات وعمليات كانت مسؤولة عن الوفيات المروعة لعشرات الإسرائيليين، بمن فيهم المدنيون الإسرائيليون. حتى لو لم تثبت مسؤوليته المباشرة عن معظم هذه الوفيات في محكمة قانونية، فليس هناك شك في أن البرغوثي، كقائد سياسي وعسكري، كان في مركز ما كان يمثل واحدة من أكثر الفترات عنفًا وصدمة في التاريخ الإسرائيلي الفلسطيني قبل 7 أكتوبر”.
طريق البرغوثي المفترض إلى سدّة القيادة يعرقله بشدة “الحرس القديم” المتجذر في السلطة الفلسطينية، ويصف شانزر الفساد في السلطة وفي قيادة محمود عباس بأنه “عميق” و”منهجي” ويشمل أبعاداً اقتصادية وسياسية.
قبل فترة قصيرة، قام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتعيين نائبه حسين الشيخ خلفاً له في حال وفاته، أو عدم قدرته على الاستمرار. ويرى كوبي مايكل، أنه وعلى الرغم من أن هذا الاستبدال مؤقت لمدة 90 يوماً مع خيار التمديد، فإن الجميع يدرك أن الانتخابات الحرة لن تتم، على الأقل ليس في وقت قريب. وبمجرد أن يبقى حسين الشيخ في منصبه لأكثر من 90 يوماً، فسيبقى هناك لفترة طويلة من الزمن. لذا، يتابع مايكل، “لست متأكداً مما إذا كان إطلاق سراح مروان البرغوثي سيُحدث في نهاية المطاف تغييراً مهماً في الساحة الفلسطينية”.
من ناحية أخرى، يرى مايكل أن إسرائيل ساهمت على مر السنين في تعزيز صورة البرغوثي ومكانته: “أعتقد أن إطلاق سراحه يشكل مشكلة أكبر بالنسبة لإسرائيل لأنه بعد سنوات عديدة من تمجيد صورة البرغوثي، أعتقد أنه سيكون من الصعب جداً على الحكومة الإسرائيلية تمكين الجمهور الإسرائيلي من ابتلاع إطلاق سراحه”.
لا يبتعد الإفراج المحتمل عن البرغوثي عن التطورات الجوهرية التي تحدث في قطاع غزة، لا سيما في المناقشات المتعلقة بحكم القطاع بعد وقف إطلاق النار الذي تحقق بوساطة وضغوطات أميركية. ولا يحيد تصريح ترامب حول مناقشات بشأن حرية البرغوثي عن هذا الأمر، بل قد يعكس اهتمام الولايات المتحدة بالعثور على قائد موثوق به لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
إيال زيسير من جامعة تل أبيب يستبعد أن يكون ترامب مهتما حقاًَ بشكل شخصي بإطلاق سراح البرغوثي، “لكن على الغالب إحدى الدول الخليجية طلبت من ترامب أن يسعى لإطلاق سراحه، أو ربما يكون أحد ما قد أسرى إلى ترامب أن البرغوثي قادر على إبرام صفقة مع إسرائيل.
جون هنّا من جهته لديه فرضية مختلفة عن الجهة التي قد تكون قد همست في أذن ترامب اسم البرغوثي: “نعلم، على سبيل المثال، أن الزعيم اليهودي الأميركي الجمهوري المؤثر، رونالد لاودر، كان يسوق في إسرائيل فكرة الإفراج عن البرغوثي كجزء من تبادل الأسرى الأخير. هل أرسل لاودر، الذي يعرف ترامب جيداً، التماساً مماثلاً إلى الرئيس؟ لا نعرف”.
ويعتبر كوبي مايكل أن البرغوثي قد يلعب دوراً أوسع في جهود التطبيع الإقليمية إذا جرى إطلاق سراحه ضمن صفقة واضحة.
الكرة في النهاية، في الملعب الإسرائيلي. حسابات البيدر الإسرائيلية مختلفة عن حساب الحقل الإقليمي والدولي. معظم من تحدثت إليهم “الحرة” يستبعدون أن توافق إسرائيل على إطلاق سراح البرغوثي، إلا إذا كان هناك “تقدم كبير جداً في توسيع اتفاقيات إبراهيم” ونزع فعال لسلاح قطاع غزة وهاتين مسألتين شائكتين جداً.
يبقى هناك سيناريو، احتماله ضئيل، يمكن ان تقبل به إسرائيل، وهو أن تطلق سراح البرغوثي بشرط خروجه من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى المنفى في الخارج.
يحذر جوناثان شانزر من خطر هذا السيناريو، فأن يحكم البرغوثي من خارج الضفة الغربية (في حال انتقاله مثلاً إلى طهران بعد إطلاق سراحه)، قد يعني أنه “لن يكون مسؤولاً أمام شعبه” ومن المرجح أن يتأثر بالقادة الإيرانيين وأجندتهم، وهذا برأيه لن يكون في صالح أحد.

رامي الأمين
كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)


