“هايلي جوبي” يثور في إثيوبيا: ارتدادات القلق تصل القاهرة

لم يكن صباح الثالث والعشرين من نوفمبر صباحا عاديا في شمال شرق إثيوبيا.

بعد خمول جيولوجي امتد لأكثر من 12 ألف عام، استيقظ بركان “هايلي جوبي” في إقليم عفر، المنطقة المنخفضة القريبة من الحدود مع إريتريا، والتي تُعدّ واحدة من أكثر النقاط حساسية على خط الصدع الأفريقي العظيم.

هناك، حيث تتباعد ثلاث صفائح تكتونية – الأفريقية والصومالية والعربية – اندفع عمود رماد وغازات إلى ارتفاع تجاوز 14 كيلومترا في واحدة من أعنف النبضات البركانية التي تشهدها المنطقة منذ عقود.

“ليس مجرد انفجار محلي، بل إشارة على تغيّر المسارات الجيولوجية في العمق،” يقول الدكتور هشام العسكري، أستاذ الاستشعار عن بُعد وعلوم الأرض في الجامعات الأميركية، في حديث مع “الحرة” ويشرح أن تراكم الغازات وارتفاع الضغط الحراري “هو المحرك الأساسي لهذا النوع من الثورانات”، وأن مظهر السحب المفاجئة “يعكس تحولًا غير متوقع في حركة الصهارة تحت القشرة”.

لم تستغرق سحابة الرماد سوى ساعات لتغادر إثيوبيا. حملتها الرياح العليا شرقا فوق البحر الأحمر نحو اليمن والسعودية، ثم دخلت الأجواء الهندية، حيث اضطرت سلطات الطيران إلى إلغاء وتحويل رحلات لحماية المحركات من جزيئات الرماد الدقيقة. ورغم أن اتجاه الرياح أبقى مصر والسودان خارج مسار السحابة، أعاد الانفجار التذكير بأن النشاط التكتوني في عفر متصل مباشرة بالنظام الجيولوجي الذي يمر عبر البحر الأحمر ثم خليج السويس وصولا إلى جنوب مصر.

ولا يتأتى الخطر، من الناحية العلمية، من انتشار الرماد، بل من المنطقة التي وقع فيها الانفجار، وهي نقطة تمزق قاري عميقة تتحرك ببطء لكن أثرها يتمدد عبر آلاف الكيلومترات.

مصر ليست داخل حزام التصدعات، لكنها تقع على امتداد نفس النظام الذي يربط عفر بالبحر الأحمر، ما يجعل أي نبضة ماغماتية، وهي دفعة مفاجئة من الصهارة تضرب القشرة من الأسفل، فتسبب سلسلة من التصدعات والاهتزازات، وهي الطريقة الطبيعية التي يتحرك بها الصدع الأفريقي العظيم: ليس تدريجيا، بل على شكل نوبات مفاجئة- هناك حدثا يستحق الرصد.

وقال الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة، أن النشاط البركاني “بعيد تماما عن مجرى النيل”، وأن اتجاه الرياح جعل تأثير الرماد على مصر والسودان منعدما. لكن شراقي شدد، في تصريحات لـ”الحرة”، أن اللحظة البركانية تزامنت مع اضطرابات أكثر أهمية قادمة من الغرب الإثيوبي:

التصرفات غير المستقرة لسدّ النهضة

“لكن الاضطراب الأكثر إثارة للقلق لم يكن في القشرة الأرضية، بل في طريقة تشغيل السد الإثيوبي.

ففي الوقت الذي كانت فيه أعين الخبراء على عفر، كانت وزارة الري المصرية تسجل نمطًا مقلقًا من التشغيل داخل السد الإثيوبي. فقد خفّضت أديس أبابا التصريف فجأة إلى 139 مليون متر مكعب يوميًا، قبل أن ترفعه مرة واحدة إلى حوالي 300 مليون، ثم استقر عند حدود 320 مليونًا لعشرة أيام. وفي نوفمبر، بلغ متوسط التصريف نحو 180 مليون متر مكعب يوميًا، بزيادة تقارب 80% عن المتوسط التاريخي للشهر نفسه.

ترى القاهرة أن هذا النمط “غير منضبط هيدرولوجيًا”، إذ يعتمد على تخفيض التصريف لرفع منسوب البحيرة ثم إطلاق كميات ضخمة بشكل مفاجئ، بدلًا من الحفاظ على منحنى ثابت يمكن لدول المصب -السودان ومصر- التعامل معه بأمان. وقد اضطرت مصر إلى فتح مفيض توشكى لتصريف الكميات الزائدة وحماية شبكة الموارد المائية.

الأرقام التي قدمها الدكتور عباس شراقي تعطي صورة أوضح. فإيراد النيل الأزرق الطبيعي عند الحدود السودانية -عند محطة الديم قرب مدينة الروصيرص- يتراوح بين 100 و200 مليون متر مكعب يوميًا. لكن الوارد الفعلي إلى سد النهضة من الأمطار وبحيرة تانا في شمال غرب إثيوبيا لا يتجاوز 70 مليون متر مكعب، فيما يأتي الباقي من مخزون البحيرة الذي ارتفع مؤخرًا ليقترب من منسوب 640 مترًا فوق سطح البحر. وبعد مرور المياه على سد مروي في شمال السودان، تتدفق شمالًا إلى بحيرة ناصر خلف السد العالي في جنوب مصر، وهو آخر وأهم خط دفاع مائي للبلاد.

واعتبر الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الري المصري الأسبق،  أن ما يجري يضع مصر “في موقف مائي شديد الصعوبة”، مشيرا في تصريحات إعلامية، إلى أن نصيب الفرد المصري من المياه لا يزيد على 500 متر مكعب سنويا -أي نصف حد الفقر المائي الدولي- ويرى أن أي اضطراب في تصريفات السد الإثيوبي “ينعكس فورا” على الزراعة والشرب والصناعة والملاحة، ويهدد الأمن المائي لدولة تعتمد على نهر واحد فقط”.

التوتر السياسي تصاعد بالتوازي مع هذه الاضطرابات، بعدما رفعت القاهرة شكوى لمجلس الأمن متهمة إثيوبيا بالتصرف الأحادي في تشغيل السد، بينما قدمت أديس أبابا شكوى مضادة. وبينما تطالب مصر والسودان باتفاق قانوني ملزم، ترفض إثيوبيا ذلك وتعتبره تدخلا في شؤونها.

وهكذا بدا انفجار “هايلي جوبي” أكبر من مجرد حدث طبيعي. فقد أعاد تذكير المنطقة بأن الأرض التي تُبنى فوقها السدود ليست مستقرة كما تبدو، وأن المشكلة الحقيقية ليست في البركان الذي يثور كل آلاف السنين، بل في منشأة مائية عملاقة تُدار بتخبط داخل بلد يشهد أحد أكثر الأنظمة التكتونية نشاطًا في العالم. الهشاشة هنا ليست جيولوجية فقط؛ بل سياسية ومستقبل النيل الأزرق قد يعتمد على طريقة إدارة هذا السد أكثر مما يعتمد على مزاج الأرض نفسها.

أحمد الفقي

صحفي ومنتج رقمي عمل مع مؤسسات إعلامية دولية وإقليمية، بخبرة في تغطية الشؤون السياسية وإدارة المحتوى.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading