دخلت انتخابات مجلس النواب المصري لعام 2025 وسط توقعات بمرور تقليدي وهادئ يعكس مشهداً سياسياً يتسم بالانغلاق النسبي والخرائط الانتخابية شبه المحددة مسبقاً. إلا أن المشهد اهتز بالكامل قبل أقل من 24 ساعة على إعلان النتائج، إثر بيان مفاجئ وغير مألوف صدر عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ففي رسالة مقتضبة، قال السيسي إن اطلع على “أحداث وقعت في بعض الدوائر” ودعا الهيئة الوطنية للانتخابات إلى مراجعة الطعون بدقة قصوى، وتضمن البيان تفويضاً للهيئة باتخاذ ما يلزم، بما في ذلك إلغاء المرحلة الأولى بالكامل في حال تعذّر الوصول إلى “الإرادة الحقيقية للناخبين”.
كانت هذه الإشارة نادرة في سياق الانتخابات المصرية، وأوحت بتجاوز حجم المخالفات ما يمكن تمريره أو التغاضي عنه.
وفي اليوم التالي مباشرة، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات إلغاء نتائج التصويت الفردي في 19 دائرة من أصل 70، في واحد من أوسع قرارات الإلغاء في تاريخ الانتخابات البرلمانية خلال السنوات الأخيرة. وقالت الهيئة إن المخالفات شملت الدعاية أمام اللجان، والتفاوت غير المبرر في الأرقام بين اللجان الفرعية والعامة، ومنع بعض المرشحين أو مندوبيهم من الحصول على محاضر فرز الأصوات، بالإضافة إلى واقعة تداول مقطع مصوّر لصندوق اقتراع مفتوح قبل انتهاء اليوم الانتخابي في الإسكندرية. وأصبحت هذه الوقائع، التي تكشّفت على مدار يومي التصويت، جزءًا من الصورة الأكبر التي دفعت مؤسسة الرئاسة إلى التدخل العلني.
تكتسب هذه التطورات حساسية مضاعفة في سياقها السياسي، فالبرلمان الذي يجري انتخابه الآن سيستمر حتى عام 2030، وهو تاريخ انتهاء الولاية الرئاسية الحالية للرئيس السيسي وفق تعديلات دستور 2019 التي مددت مدة الرئاسة وأتاحت له ولاية ثالثة هي الأخيرة بموجب النص الحالي. لكن الأهم، أن هذا المجلس الجديد يصبح صاحب الكلمة العليا في أي تغيير دستوري محتمل مستقبلا، إذ تمنح المادة 226 من الدستور رئيس الجمهورية أو خُمس أعضاء المجلس حق طلب تعديل مواده، ما يجعل البرلمان الحالي هو الأداة الرئيسية لتمرير أي تغيير محتمل يتعلق بسلطات الرئيس أو مدد حكمه خلال الأعوام القادمة.
تتداخل هذه الحسابات مع إشكالية نظام الانتخابات نفسه، حيث إن نظام القوائم المغلقة المطلقة، الذي يحدد مصير نصف أعضاء المجلس (284 مقعداً)، يمنح القائمة الفائزة جميع المقاعد في الدائرة دون أي تمثيل نسبي، حتى لو فازت بفارق ضئيل. ونظراً لتقدم قائمة واحدة فقط تضم أحزاب الموالاة الرئيسية (“مستقبل وطن” و”حماة الوطن” و”الجبهة الوطنية”)، فقد أصبح نصف مقاعد البرلمان محسوماً فعلياً قبل بدء الاقتراع. وينتقد محللون هذا النظام بوصفه يقود إلى ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ “البرلمان التمريري (Rubber-Stamp Parliament)” الذي يغيب فيه التنوع السياسي والمعارضة الفعالة.
في المقابل، شهد نظام الفردي – الذي يمثل المساحة الحقيقية للتنافس – تقلصاً حاداً في عدد المرشحين لم يتجاوزمن أكثر من خمسة آلاف في انتخابات 2020، إلى 2904 متنافسين في 2025، رغم ارتفاع عدد الناخبين إلى نحو 69,3 مليون، أي بنحو %10 %10. هذا التراجع دفع شخصيات إعلامية بارزة، مثل الصحفي مجدي الجلاد والصحفي عماد الدين حسين، للحديث علناً عن “هندسة الانتخابات” وتوزيع المقاعد بين الأحزاب حتى قبل انتهاء التصويت، مشيرين إلى أن التنافس الفعلي قد ينحصر في نحو عشرين في المئة فقط من مقاعد الفردي.
ومع بدء يومي الاقتراع، توالت الشكاوى من الدوائر المختلفة. انسحبت النائبة السابقة نشوى الديب بعد ساعة واحدة من بدء التصويت، معتبرة أن “تكافؤ الفرص لم يعد قائما بأي شكل”. وفي الإسكندرية، أثار مقطع الفيديو لصندوق مفتوح تساؤلات واسعة حول سلامة إجراءات التصويت. وتحدث مرشحون آخرون عن منع مندوبيهم من الحصول على محاضر الفرز في عدد من اللجان، وهو ما مثّل انتهاكًا مباشرًا لإجراءات الشفافية.
لم تتوقف الانتقادات عند المرشحين أو الأصوات المعارضة. من داخل المؤسسات الإعلامية والسياسية نفسها خرجت لهجة مغايرة. وصف الصحفي أحمد الدريني الجولة الأولى بأنها “مهزلة كان لابد من وقفها”. وقال محمد الجارحي، وكيل نقابة الصحفيين المصرية، إن العملية الانتخابية تحتاج إلى “استعادة معايير واضحة للنزاهة ومحاسبة كل من يخالفها”.
واعتبر ياسر حسن، عضو المكتب التنفيذي لحزب الوفد، أن ما جرى “أشبه بمنافسة بين جهات داخل الدولة نفسها وليس تنافسا سياسيا”، بينما تحدث النائب والمرشح مصطفى بكري عن “سعر صوت وصل إلى ألفي جنيه” وعن مرشحين أنفقوا “ملايين الجنيهات” في دوائر بعينها، وهو ما يعكس حجم الأموال المتداولة داخل المشهد الانتخابي.
وفي أبعد نقطة عن المشهد الحزبي المباشر، عبّر حسام بدراوي، الأمين العام الأخير للحزب الوطني المنحل، عن قلق عميق بشأن مستقبل الحياة السياسية.
أكد بدراوي أنه لن يمنح صوته للرئيس السيسي لمرة رابعة، ورفض قاطعا أي تعديل دستوري جديد لمدد الرئاسة، واصفاً الداعين لذلك بـ “المنافقين الأكابر”، في رسالة نقدية حملت دلالات عميقة بالنظر إلى موقعه ورصيده السياسي.
ورغم سعي أحزاب القائمة الوطنية للترحيب ببيان الرئيس واعتباره “ضمانة للنزاهة”، فإن المفارقة تكمن في أن هذه الأحزاب نفسها كانت جزءا أساسيا من هندسة العملية الانتخابية. ولهذا، بدا واضحاً أن الرسالة الرئاسية باغتت حتى القوى المهيمنة على المشهد.
بينما تبدأ الهيئة الوطنية للانتخابات الآن في تنفيذ قرارات الإلغاء وتنظيم إجراءات الإعادة في الدوائر المتضررة – التي ستُجرى للمصريين في الخارج يومي 24 و 25 ديسمبر، وفي الداخل يومي 27 و28 ديسمبر، على أن تُعلن النتائج النهائية في 4 يناير- تستعد مصر للمرحلة الثانية من التصويت في الأسبوع المقبل (بما فيها محافظات القاهرة والدلتا).
تكشف انتخابات 2025، بما تخللها من بيان رئاسي غير مسبوق، وإلغاء واسع، وتراجع في المشاركة الشعبية التي لم تتجاوز 23% في الجولة الأولى، عن أزمة تتجاوز حدود ما شهده يوم التصويت. إنها أزمة في بنية العملية السياسية نفسها، وفي قدرة النظام الانتخابي على الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن حين تتعرض آلياته لضغط غير متوقع.
وبين توترات اليوم الانتخابي، والجدل حول صلاحيات المرحلة المقبلة، بات واضحا أن ما يجري ليس مجرد انتخابات، بل اختبار حقيقي لمعادلة الحكم في مصر خلال السنوات المقبلة.

أحمد الفقي
صحفي ومنتج رقمي عمل مع مؤسسات إعلامية دولية وإقليمية، بخبرة في تغطية الشؤون السياسية وإدارة المحتوى.


