بعد أكثر من أربعين عاما على صدور قانون الأحوال الشخصية في الكويت، يجد الكويتيون أنفسهم أمام مسودة تعديل واسعة لواحد من أكثر التشريعات ارتباطا بالحياة اليومية للأسر.
المشروع الجديد لا يكتفي بترقيع محدود، بل يعيد بناء القانون من أساسه عبر تعديل 134 مادة، والإبقاء على 194 مادة، وإضافة 38 مادة جديدة. النتيجة: هيكل قانوني من 336 مادة يعيد تعريف القواعد الناظمة للزواج والطلاق والحضانة والولاية وسائر شؤون الأسرة.
وما كان نقاشا محصورا داخل اللجان القانونية أصبح موضوع جدل عاما. خلال أسابيع قليلة، انتقلت المسودة من مكاتب وزارة العدل إلى صفحات الصحف ومنصات التواصل، لتتحول إلى نقاش واسع يتقاطع فيه القانوني بالاجتماعي، والحقوقي بالديني، والحداثي بالمحافظ.
مراجعة موسعة
ظهرت ملامح المشروع للمرة الأولى في مارس 2025، حين أعلن وزير العدل ناصر السميط عبر تصريح مختصر في صحيفة “القبس” عن نية الحكومة إطلاق تعديل شامل يطال قوانين الأسرة والعنف الأسري والأحداث، وليس فقط الأحوال الشخصية.
لكن مع نشر المسودة الجديدة هذا الأسبوع، بات واضحا أن التغييرات المقترحة هي الأكبر منذ إصدار القانون عام 1984. وتتضمن تعديلات تطاول سن الزواج، شروط الحضانة، النفقة، إثبات الضرر، تنظيم الخطبة، آليات المصادقة على الأحكام الشرعية، والتوثيق الإلكتروني، إضافة إلى إدخال فحوص الحمض النووي في قضايا النسب.
جرى استقبال بعض هذه البنود بارتياح داخل الأوساط القانونية، خصوصا تلك المتعلقة بالتوثيق والإجراءات الحديثة. إلا أن القسم الأكثر إثارة للجدل يتعلق بالمواد التي تُعدّ حساسة اجتماعيا، مثل اشتراط إذن الزوج لخروج زوجته من المسكن، ورفع سن الزواج إلى 18 مع استثناءات قضائية، والتشدد في حضانة الأم غير المسلمة، ونقل حضانة البنت إلى الأب بين سن 12 و18. هذه البنود فتحت نقاشا واسعا حول مدى انسجام المشروع مع الواقع الاجتماعي في الكويت، وقدرته على الاستجابة لحاجات الأسرة الحديثة.
أسئلة حول صياغة القانون
وسط هذا الجدل، برزت ملاحظات حول آلية إعداد المشروع. المحامية أريج حمادة ترى أن المشكلة ليست في مبدأ التعديل، بل في الطريقة التي صيغ بها. تقول إن اللجان التي أعدت المشروع ضمّت أسماء لا تمتلك خبرة كافية في التشريعات الأسرية، رغم حساسية هذا النوع من القوانين وتأثيره المباشر على المجتمع.
وتشير حمادة إلى أن بعض النصوص الواردة في المسودة جاءت بصياغات فضفاضة قد تسمح بتفسيرات واسعة يترتب عليها ضرر للزوجة أو الطفل. وتربط ذلك برسائل منظمة تشن هجمات على المعترضين في مواقع التواصل، معتبرة أن وجود هذا المناخ يزيد من الحاجة إلى نقاش مجتمعي مفتوح يمنع حصر التشريع في رؤية واحدة.
وتستعيد حمادة تجربة إلغاء المادة 153 من قانون الجزاء، التي كانت تمنح عذرا مخففا في جرائم ما يسمى “قتل الشرف”، باعتبارها خطوة إصلاحية مهمة. لكنها ترى أن بعض التعديلات المطروحة اليوم تسير في اتجاه مخالف، وتكشف عن توجه يهدف إلى فرض رؤية اجتماعية محافظة عبر أدوات قانونية.
قراءة قانونية أوسع
على الجانب الآخر، يحاول المحامي مشاري العيادة تقديم قراءة أكثر توازنا. فهو يرى أن أي تعديل بهذا الحجم يحتاج إلى أسباب موضوعية، عادة ما تظهر من خلال ثغرات في التطبيق القضائي: نزاعات متكررة حول الحضانة، صعوبة تنفيذ أحكام النفقة، أو عدم تناسق بعض النصوص مع المبادئ العامة للعدالة.
ويعتبر العيادة أن التعديلات المقترحة تجمع بين حاجتين: معالجة مشكلات اجتماعية واقعية، من جهة، ومواءمة التشريع مع التزامات دولية ورؤية وطنية لإصلاح المنظومة القانونية، من جهة أخرى. لكنه يشدد على أن التشريع الأسري في المجتمعات المحافظة لا ينجح إلا إذا استطاع الجمع بين المرجعية الدينية والقيمة الاجتماعية من دون قطيعة مع الواقع المتغير.
ويضيف أن وضوح النصوص عامل حاسم في نجاحها. فالقوانين الفضفاضة تفتح الباب لتفسيرات متباينة بين القضاة، ما يؤدي إلى ارتباك يمسّ حياة الناس مباشرة. ويشير إلى أهمية الحوار المجتمعي قبل إقرار أي نص، إضافة إلى تحديث البنية القضائية ذاتها، من المحاكم المتخصصة إلى نظم التبليغ الإلكتروني والتدريب القضائي.
بند صغير أثار جدلا كبيرا
من بين كل المواد التي طرحت، برزت مسألة الوصية الواجبة باعتبارها عنوانا لنقاش اجتماعي واسع. هذا النظام، المطبّق في الكويت منذ 1971، يضمن لأحفاد المتوفى نصيبا من الميراث إذا كان والدهم أو والدتهم قد توفيا قبل الجد أو الجدة. أكثر من خمسة عقود مرّت على استقرار هذا النص في القضاء الكويتي.
إلا أن إدراج مقترح إلغائه في المسودة حوّل المسألة إلى بؤرة جدل. وترى أريج حمادة أن إلغاء الوصية الواجبة يعني عمليا حرمان فئة ضعيفة داخل الأسرة من حق كان مكفولا، وتقول إن هذا التغيير لا يحمل رؤية اجتماعية متوازنة. وتضعه ضمن مجموعة من التعديلات التي تعيد صياغة العلاقة الأسرية بطريقة تمنح أحد أطرافها سلطة أكبر.
أما العيادة فيرى أن تقييم الوصية الواجبة، سواء بالإبقاء عليها أو تعديلها، يحتاج إلى قراءة قانونية دقيقة توازن بين حاجات الأسرة الكويتية والاجتهادات الفقهية الحديثة. لكنه يكرر أن الصياغة المتوازنة شرط أساسي لنجاح أي تغيير في هذا النوع من التشريعات.
مشروع تعديل
المسودة الحالية، بتعقيداتها واتساعها، أصبحت اختبارا لطبيعة التحول التشريعي في الكويت. هل تتجه البلاد نحو قانون أسرة أكثر حداثة؟ أم نحو تثبيت رؤية اجتماعية أكثر محافظة؟ وبين هذين الاتجاهين، يتمحور النقاش حول سؤال واحد: كيف يمكن تحديث المنظومة القانونية بما ينسجم مع قيم المجتمع ويمنح الأسر، نساءً ورجالاً وأطفالاً، بيئة أكثر استقرارا وعدالة؟
هذا السؤال ما زال قائما، والمسودة الجديدة قد تكون البداية فحسب لمسار تشريعي طويل يحدد شكل العلاقة الأسرية في الكويت لعقود مقبلة.
سكينة المشيخص
كاتبة و باحثة و مقدمة برامج سعودية



