إيران.. معضلة الدوائر المتداخلة ونشأة “التشيع السياسي”

الحرة's avatar الحرة2025-08-25

في حلقته الأسبوعية على المنصات الرقمية لـ”الحرة”، يتناول الكاتب والصحافي إبراهيم عيسى نشأة التشيع السياسي واستغلال إيران للمذهب الشيعي لنشر لبسط نفوذها في المنطقة. النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أعيد تحريره لتسهيل القراءة.

إيران معضلة… معضلة حقيقية!

عندما تتحدث عن إيران، عليك أن تفرق بين عدة دوائر متداخلة، وهذا التفريق هو مفتاح الفهم الحقيقي.

هذه الدوائر هي: إيران البلد والشعب والحضارة، ثم إيران المذهب والشيعة كمسلمين، وأخيراً إيران الدولة والنظام الذي يحكمها.

الخلط بينها يغذي حالة من الغموض، ويجعل من المستحيل تقييم الأفعال السياسية للنظام بمعزل عن المذهب أو الشعب.

الدوائر الثلاث: تفكيك معضلة إيران

كل واحدة من الدوائر الثلاث تمثل طبقة من طبقات الهوية الإيرانية. هذه الدوائر لا تتعايش بسلام دائما، بل غالباً ما يتصارع بعضها مع بعض، ويسعى أحدها لاختطاف الأخرى.

إيران بلد عظيم وشعب عظيم، هو خلف سلف أعظم، وهي الحضارة الفارسية. هذه الدائرة الأولى مهمة للغاية لا يجب أبداً أن نتجاهلها أو نتعامل معها باعتبارها نسياً منسياً. تجاهل هذا البعد التاريخي والحضاري يؤدي إلى تبسيط مخل، ويجعلنا نرى إيران ككيان ديني أو سياسي فقط، بينما هي في جوهرها أمة عريقة لها تاريخها وإسهاماتها الكبيرة.

إيران أيضا على المذهب الشيعي، فهي دولة شيعية. والشيعة مذهب إسلامي، وهذا تصريح واضح وضروري لوضع حد لدعاوى الكراهية والفتنة والتعصب. والتعامل مع الشيعة ككفار ليس فقط خاطئاً دينياً، بل هو يخدم أجندات سياسية.

ولابد أن يكون واضحاً أنك وأنت تتحدث عن إيران، عليك أن تفصل تماماً ما بين حديثك عن الشيعة، وهم ليسوا في إيران فقط، وبين هذه الحكومة الإيرانية أو الدولة الإيرانية تحديداً.

أما الدائرة الثالثة فهي النظام الإيراني. فمنذ عام 1979، قامت الثورة الإيرانية، ثم تحولت إلى الثورة الإسلامية. بدأت هذه الثورة بمشهد نزول الخميني على سلم الطائرة، تصحبه أسماء ووجوه من شتى التيارات السياسية الإيرانية وقتها، من أقصى اليسار الماركسي إلى الليبراليين المدنيين. لكن الأمر تحول إلى أن الخميني انفرد بالحكم والسلطة، فانتهى الأمر ليس فقط بالإطاحة بفصائل ومكونات الثورة الإيرانية، وإنما بقتلهم أو اغتيالهم أو نفيهم.

إذن، نحن أمام أكثر من دائرة ونحن نتحدث عن إيران. هذه الدوائر هي ما تشكل المعضلة الحقيقية. الخلط بينها يؤدي إلى نتائج خاطئة، ويجعل من أي محاولة للتعامل مع النظام الإيراني محفوفة بالمخاطر، لأنك لا تستطيع أن تفرق بين ما هو سياسي وما هو عقائدي، بين ما هو قومي وما هو مذهبي.

اختطاف المذهب: ولاية الفقيه والتفويض الإلهي

الفكرة المحورية هنا هي أن الحكم الحالي في إيران لم يكتفِ باختطاف الشعب الإيراني، بل اختطف المذهب الشيعي نفسه. هذا الاختطاف يتجلى في فرض فكرة “ولاية الفقيه” كعقيدة ودستور للدولة، وهي فكرة لم تكن أصيلة في الفكر الشيعي، بل كانت هامشية جداً.

الشيعة عموما ليسوا مذهباً واحداً، بل مذاهب متداخلة ومدارس متفرقة، كالزيدية والإسماعيلية. والمذهب الذي يتبعه النظام الإيراني هو المذهب الاثني عشري. لكن حتى داخل المذهب الاثني عشري، لم يكن الفقهاء يرون أن شيئاً هناك اسمه ولاية الفقيه.

وعندما جاء الخميني وطرح هذه الفكرة، كانت فكرة محدودة، في دائرة ضيقة، وكانت “نتوءاً” في الفكر الشيعي والفقه الشيعي. المذهب الشيعي الاثني عشري يرى أن هناك الإمام الغائب، الذي هو الإمام الثاني عشر، وهو الذي يدير الأمر وله الأمر والنهي، والناس تعلق أمورها حتى عودته.

فكرة ولاية الفقيه إذن فكرة جديدة تماماً. لذا، فعندما يقرر الخميني تسييد هذه الفكرة وجعلها هي المذهب الرسمي في الدستور الإيراني، فإنه يصنع حالة من الكهانة وحالة من الحكم الديني القائم على التفويض الإلهي. الفقيه هنا يصبح وكأنه يتولى مهام الإمام الغائب حتى يعود، فيقوم بمهام الإمام. وبالتالي، يصبح الفقيه وكأنه الإمام الذي لا يمكن أن يخطئ أو يحاسب أو يساءل.

هذا التحول العقائدي ليس مجرد اجتهاد فقهي، بل هو قرار سياسي خالص لتبرير الحكم المطلق للولي الفقيه. عندما يصبح الحاكم ممثلاً لإرادة إلهية، فإن أي معارضة له أو أي مساءلة تصبح كفراً ومخالفة للإرادة الإلهية نفسها. هذا يفسر لماذا قام الخميني “بذبح” حلفائه السابقين؛ لأن وجود أي منافس سياسي أو فكري سيناقض فكرة السلطة المطلقة المستمدة من السماء.

“التشيع السياسي”.. استراتيجيات الهيمنة الإيرانية

ولاية الفقيه لم تكتفِ فقط بوضع كل الأمور وكل المصائر في يد هذا الإمام، ولكنها صنعت أيضا من إيران دولة تستهدف تصدير الثورة. وهذا هو جوهر “التشيع السياسي”.

التشيع السياسي هو الأداة التي يستخدمها النظام الإيراني لتوسيع نفوذه وهيمنته في المنطقة العربية. هذا التشيع لا علاقة له بالعقائد الدينية، بل هو براغماتية متطرفة تهدف إلى خدمة أجندات سياسية بحتة، تستغل المذهب الشيعي في بعض الأحيان، وتتجاوزه في أحيان أخرى.

اتكأت إيران في سعيها إلى تصدير الثورة على ثلاث استراتيجيات:

تمثلت الأولى في صناعة أذرع شيعية عبر خلق كتائب وفصائل مرتبطة بإيران في المنطقة العربية والإسلامية كلها”. أصل الحكاية أن النظام الإيراني يريد أن يعمل نفوذاً إيرانياً في المنطقة. والمنطقة العربية في غالبيتها من السنة. وإيران شيعية، وهي شيعية بتاع ولاية الفقيه”.

فكيف تدخل على هذه المنطقة؟ الحل هو خلق أذرع لها. حزب الله في لبنان هو أبرز مثال. تأسس الحزب بعد صراع رهيب ودموي سالت فيه دماء الشيعة أنفسهم. اللبنانيون تقاتلوا وتحاربوا وقتلوا بعضهم البعض وذبحوا بعضهم البعض في مذابح شنيعة في لبنان.

كل ذلك من أجل أن يسود حزب ولاية الفقيه، وهو حزب الله، في مواجهة حركة أمل التي لم تكن مؤمنة بولاية الفقيه ولم تكن ذات ولاء إيراني مباشر.

هذا النموذج تكرر في العراق وسوريا واليمن. حتى الحوثيون الذين هم ليسوا اثني عشرية، بل هم زيدية، قام النظام الإيراني بتمويلهم وتسليحهم ودعمهم.

أما الاستراتيجية الثانية فتتمثل في اختراق المجتمعات السنية عبر استغلال قضية فلسطين. “كيف أقرب السنة مني؟ أفعل ذلك بأن أقدم نفسي على أنني أنا الذي أدافع عن فلسطين، وأنا الذي أحرر فلسطين، وأنا الذي أدعم قضية فلسطين، وأنا أواجه إسرائيل وأواجه أميركا. بهذا، أصبح النظام الإيراني قادراً على جذب وتجنيد الجماعات الإسلامية السنية.

إنهم يدعمون هذه الجماعات ويؤيدونها، لكي تخدم سياسة النظام وأهدافه كولاية فقيه. وفي نفس الوقت، يقوم النظام باختراق المجتمع السني. وهنا تأتي قصة حماس.

الملفت أنه عندما تقرأ في مذكرات المنتمين إلى حماس، تكتشف شيئا غريبا أنه عندما قابلوا المسؤولين الإيرانيين لأول مرة في مرج الزهور، لم يرضَ الحمساويون أن يسلموا عليهم. كانوا يعتبرون الشيعة كفارا.

المجموعة الإيرانية بذلت جهداً كبيراً لإسقاط فكرة شيطنة الشيعة عند الحمساويين. وأكدوا على أن هناك مصالح مشتركة، وأنهم مسلمون مثلهم. وبطبيعة الحال، كان جزء من هذا التحالف انتهازياً من اللحظة الأولى. الإيرانيون يريدون أن يعملوا حالة التشيع السياسي، ويريدون أن يخدموا أهدافهم في اختراق المجتمع العربي والسني والسيطرة والهيمنة على المنطقة العربية تحت عناوين فلسطين.

أما الاستراتيجية الثالثة فهي التحالف مع بعض اليساريين والقوميين، إذ لا يزال هناك قوميون عرب ويساريون يعادون أميركا وضد السلام مع إسرائيل. وهم يرون أن حل القضية الفلسطينية يتم عبر البندقية والسلاح. هذه المجموعات، التي تصف نفسها بأنها قومية وناصرية ويسارية، أصبحت أيضاً جزءاً من الحلف الإيراني.

وهنا يظهر التناقض الصارخ. اليسار العربي يتحالف مع إيران، التي هي نفسها تقتل اليسار الإيراني. اليسار العربي يتغاضى عن الاستبداد والحكم الديني في إيران، بل ويتغاضى عن اضطهاد اليسار الإيراني وسجن اليساريين وقتلهم. كل ذلك من أجل هدفهم الذي يرون فيه أن التمويل والدعم الإيراني سيساندهم ويساعدهم في كفاحهم ونضالهم من أجل تحرير فلسطين عبر البندقية.

جذور تاريخية

للبحث في جذور التشيع السياسي لابد أن نعود إلى القرن السادس عشر، حين لم تكن إيران دولة شيعية. كانت هناك أقاليم داخل إيران، أغلبها من الشيعة مثل قم. ولكن عندما سيطرت الدولة الصفوية وهيمنت على إيران، كانت في حالة عداء ومواجهة مع الدولة العثمانية السنية.

إذن، كان لا بد للدولة الصفوية أن تعطي لهذا العداء والخصام والمنافسة مع الدولة العثمانية غطاءً دينياً ومذهبيا. فكان هذا الغطاء هو المذهب الشيعي.

منذ تلك اللحظة، أصبحت المذاهب الدينية لعبة سياسية. انتشار المذهب الشيعي في إيران لم يكن عملية دينية خالصة، بل كان هدفاً سياسياً بحتاً، استخدمته الدولة الصفوية في صراعها مع العثمانيين. وهذا النمط التاريخي يلقي بظلاله على الواقع الحالي، ويؤكد أن ما يفعله النظام الإيراني اليوم من استغلال للمذهب هو امتداد لنمط قديم متجدد. إنها حلقة مفرغة من استخدام المذهب كأداة سياسية.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading