في شوارع العاصمة طهران، يختلط ضجيج أبواق السيارات بصرخات المواطنين الغاضبين، أفرادا وجماعات، في مشهد يختصر بلدا مفتوحا على كل الاحتمالا.
بعد أشهر من الضربات الإسرائيلية التي كشفت ضعف النظام، تتسع رقعة الاحتجاجات بفعل الغلاء والبطالة والقمع. وتوثّق مقاطع مصوّرة حصلت عليها “الحرة” تجمعات شعبية في أكثر من 30 محافظة إيرانية احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردية.
من مناطق الأكراد والبلوش إلى إقليم خوزستان العربي، يتقاطع غضب النساء والشباب والأقليات في مواجهة سلطة يراها كثيرون ضعيفة لكنها لا تزال شرسة. والسؤال الآن: هل تتحول هذه الشرارات المتفرقة إلى حراك موحّد قادر على فرض التغيير، أم ينجح النظام مجددا في تطويق الغضب بحملات القمع؟
شارع يغلي واقتصاد ينهار
من قلب العاصمة، تقول كريمة (اسم مستعار)، وهي موظفة في دائرة حكومية بطهران، إن الأوضاع المعيشية تفاقمت بعد حرب يونيو مع إسرائيل. وتضيف: “ما فائدة (السلاح) النووي إذا لا نملك خبزا للعشاء”.
في أبريل، اندلعت شرارة التظاهرات في كرمنشاه غربي البلاد، قبل أن تمتد إلى مدن أخرى احتجاجا على أزمة الخبز. وفي مايو، نظّم سائقو الشاحنات إضرابا واسعا شمل 152 مدينة، بينها تيران، باغملك، كلكهر، مهاباد، بلدختر، مهران، تشرمهين، واليكودرز.
“شوارع طهران مكتظة بقوات الأمن والحرس الثوري، لكن الخوف تغيّر موقعه. هم من باتوا يخشون الشعب”، تقول كريمة في مقطع مصوّر أرسلته إلى “الحرة”.
ضربات إسرائيلية واختراقات استخباراتية
شكّلت الهجمات الإسرائيلية في يونيو الماضي ضربة موجعة للنظام الإيراني بعدما استهدفت شخصيات بارزة في المستويين العسكري والعلمي، أبرزهم قادة في الحرس الثوري وخبراء في برامج الصواريخ والطائرات المسيّرة. هذه العمليات الدقيقة لم تضعف البنية القيادية للأجهزة الأمنية فحسب، بل وجّهت رسالة قوية بأن طهران عاجزة عن حماية كبار مسؤوليها حتى في أكثر المواقع تحصينا.
أما على المستوى الاستخباراتي، فقد كشفت الضربات عن اختراقات عميقة داخل مؤسسات الدولة. تقارير أمنية محلية ودولية أشارت إلى شبكات تجسس وصلت إلى مواقع حساسة وخطوط اتصال داخلية، ما أدى إلى موجة من الإقالات والتحقيقات في صفوف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
أزمة اقتصادية خانقة
التدهور الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد منذ عقود بلغ مستويات غير مسبوقة. ويقول المعارض الإيراني ماثيو تسوجي، عضو مجلس المقاومة الإيرانية، إن الجمهورية الإسلامية تمرّ اليوم “بإحدى أسوأ مراحلها منذ ثورة 1979″، مشيرًا إلى تراجع العملة من نحو 70 ريالا للدولار إلى أكثر من 940 ألفا، ما دفع السلطات للتفكير في حذف الأصفار.
ومن أصفهان، يقول محمد (اسم مستعار) إن بعض الإيرانيين “اضطروا لبيع كُلاهم لتأمين لقمة العيش”.
وكشفت تقارير رسمية إيرانية أن أكثر من 30 مليون إيراني، أي ما يزيد على ثلث السكان، يعيشون تحت خط الفقر. وبحسب مركز الإحصاء الإيراني، بلغ التضخم السنوي 34.5% بنهاية يونيو، والبطالة 7.7% في الربع الأول من العام، ليرتفع مؤشر البؤس إلى 42.2، وهو مستوى أعلى مما سُجّل العام الماضي.
أقليات تحت القمع
منذ 1979، رسّخ الخميني حكمه بعد سقوط الشاه بثورة شعبية، وأنهى أي تقاسم للسلطة مع شركاء الثورة. يقول المعارض الكردي فرامرز محمدي إن تلك المرحلة شهدت توترات واشتباكات مع الأكراد الذين طالبوا بالحكم الذاتي، فيما امتد القمع إلى قوميات أخرى بينها البلوش والعرب.
وتوضح الناشطة البلوشية فاطمة سرحدي أن “سيستان وبلوشستان” ما زالت من أفقر المحافظات، تعاني نقصا في البنية التحتية وارتفاع البطالة، بينما يفرض الحرس الثوري سيطرة عسكرية مشددة، ويتعامل مع الإقليم كـ”منطقة محتلة”.
وبحسب منظمات حقوقية، بينها العفو الدولية ومركز حقوق الإنسان في إيران، فتحت قوات الأمن النار في سبتمبر 2022 على محتجين قرب مسجد زاهدان الكبير، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص بينهم أطفال ونساء. وتضيف سرحدي أن “النشطاء البلوش يتعرضون للاعتقالات التعسفية والمحاكمات الجائرة والإعدامات. كما تُنفَّذ عمليات إعدام واسعة النطاق دون أي تسجيل رسمي”.
معارضة واسعة.. وانقسامات عميقة
في مواجهة هذه الأوضاع، برزت معارضة تضم أكثر من 50 حزبا وحركة من الطلاب والنساء إلى البلوش والأكراد والعرب. يقول الناشط الأهوازي أمين نعيمي إن المطالب تتركز على “الاعتراف بحق تقرير المصير وضمان حياة كريمة لكل أبناء إيران”، معتبرا أن القضية مرتبطة بالحقوق الاجتماعية والحريات الفردية.
لكن المشهد المعارض ما زال مفككا، سواء على المستوى الوطني أو داخل الجماعات العرقية والثقافية. غياب جبهة موحدة أو قيادة مركزية قادرة على تنظيم المبادرات الشعبية يحدّ من فاعلية الحراك، فيما تمنح الانقسامات الأيديولوجية والعشائرية النظام فرصة لإدارة الأزمة عبر القبضة الأمنية وسياسات تنموية جزئية.
في جنوب غربي البلاد، تعيش خوزستان الغنية بالنفط والموارد الطبيعية تحت وطأة الفقر والتهميش والقمع. ورغم أن مدنها تعد من أبرز بؤر الاحتجاج، تعاني المعارضة هناك انقسامات مشابهة.
مستقبل غامض
“سواء في الإطاحة بالنظام أو بناء نظام ديمقراطي، يجب أن نضمن مشاركة متساوية لكل القوميات”، يقول فرامرز محمدي.
وترى شيرين عبادي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، أن “النصر مسألة وقت”. وتضيف: “أثبت التاريخ أن أي حكومة لا يمكنها البقاء إذا عارضتها أغلبية المجتمع”.
حتى الآن، يستفيد النظام من انقسام المعارضة لإحكام سيطرته على الشارع. ويبقى السؤال معلقا: هل تتعلم المعارضة من تجارب الماضي لتوحيد الصفوف، أم ينجح النظام مجددا في تطويق الغضب؟


