طالما كانت منطقة الساحل الإفريقي مسرحا لصراعات النفوذ بين باريس وموسكو وبكين؛ اليوم يدخل لاعب جديد حلبة المنافسة.
في نجامينا، كما في باماكو ونيامي، لم تعد إسرائيل اسما غريبا.
زيارات وفود أمنية، ولقاءات خلف الأبواب المغلقة، وحديث متزايد عن مشاريع زراعية وتقنية، كل ذلك يشي بأن الساحل الإفريقي بات ساحة اختبار جديدة لطموحات إسرائيل.
لعقود طويلة واجهت إسرائيل صعوبة في التمدد داخل شمال إفريقيا، باستثناء مصر التي وقّعت معها اتفاقية سلام مبكرا. لكن اتفاقيات أبراهام عام 2020 غيّرت المعادلة، ومنحت إسرائيل شريكا جديدا هو المغرب، ما فتح الباب أمام التفكير في فضاءات أوسع داخل القارة.
بالنسبة لإسرائيل، لا تتوقف المكاسب عند حدود التطبيع العربي، بل تمتد إلى دول الساحل حيث الموارد الطبيعية، والأنظمة الباحثة عن شركاء جدد يقدّمون أكثر من الخطاب الأيديولوجي.
تجربة تشاد تكشف هذه البراغماتية الجديدة.
بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي وصعود نجله محمد ديبي، تزايدت الإشارات إلى استئناف العلاقات مع إسرائيل.
ويرى محللون أن الأنظمة الجديدة في الساحل تتجاوز الشعارات وتطرح سؤالا عمليا: ما المكاسب من هذه الشراكة؟
لكن الداخل التشادي ليس متفقا بشأن الإجابة، خصوصا مع تقارير عن تدخلات خارجية، بينها ما نُسب للموساد خلال عملية انتقال السلطة، الأمر الذي يضاعف الجدل حول شرعية النظام ودور إسرائيل في رسم المشهد.
تقول سارة يركيس، كبيرة الباحثين في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن “إسرائيل تتواجد في منطقة الساحل على الصعيد الأمني في المقام الأول، وتصاعد العنف المتطرف الذي حدث على مدى السنوات القليلة الماضية يمثل تهديدا مباشرا لها، فالعديد من الجماعات التي تنشط في منطقة الساحل لها صلات بجماعات تعمل ضد المصالح الإسرائيلية، مثل حزب الله”.
وتضيف: “إسرائيل تضخم من حجم التحديات الأمنية في دول الساحل دبلوماسيا، من أجل إقناع السكان المحليين بأهمية تطبيع العلاقات”.
لكن انتصار فاخر، كبيرة الباحثين في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، تعتقد أن الأولوية مختلفة.
“لا أعتقد أن الدافع الرئيسي لإسرائيل هو التعاون الأمني من البداية. أعتقد أن هناك الكثير من المجالات الأخرى التي يمكن أن تشهد تعاونا إسرائيليا أقوى، لا سيما في المجال الاقتصادي والتعاون التكنولوجي،”تضيف.
وتشير تقارير عدة إلى أن إسرائيل زودت بعض دول المنطقة بأسلحة متطورة، وأن خبراء إسرائيليين أشرفوا على تدريب قوات خاصة وتسويق أنظمة مراقبة، بهدف ربط التعاون العسكري بتبادل معلومات استخباراتية حول الجماعات المسلحة، ومنها ما يرتبط أيديولوجيا بخصوم إسرائيل مثل حزب الله.
بعيدا عن الأمن، تنظر إسرائيل إلى الساحل كخزان موارد وفرص استثمارية.
في عام 1957، أنشأت إسرائيل أول بعثة دبلوماسية لها في إفريقيا.
وبعد عام واحد، أسست “مركز التعاون الدولي” وهي منظمة حكومية مهمتها تنسيق الاتفاقيات التقنية مع الدول الإفريقية. وبحلول ستينيات القرن الماضي، كانت إسرائيل قد أقامت علاقات دبلوماسية مع 33 دولة إفريقية.
لا توجد بيانات دقيقة حول حجم الاستثمارات الإسرائيلية المباشرة في دول الساحل الأفريقي، لكن وفقا لتقارير إسرائيلية، فإن الاستثمارات بشكل عام تركز على القطاعات التي تتمتع فيها إسرائيل بخبرة وتفوق تكنولوجي.
وتشمل هذه القطاعات التكنولوجيا الزراعية، المياه، الطاقة المتجددة، الصحة، والأمن السيبراني والدفاع.
تقول فاخر: “هناك حوافز اقتصادية، فأفريقيا لديها إمكانات هائلة. الكثير من الموارد، والمعادن الأرضية النادرة، وهي أشياء ذات صلة كبيرة ببعض الصناعات الإسرائيلية”. أما يركيس فترى أن “لإسرائيل مصالح تنموية طويلة الأمد في المنطقة. تحاول تصدير بعض تكنولوجياتها، وتصدير بعض اقتصادها إلى منطقة الساحل”.
ولا يتوقف الأمر عند الاقتصاد والأمن. الانفتاح على أفريقيا جزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع لكسر العزلة.
تقول فاخر إن “المصلحة الأساسية هي الحصول على قبول أوسع نطاقا يتجاوز الدعم والقبول من الدول الغربية. لكن المضي قدما في هذا الاتجاه سيكون صعبا في ضوء الوضع الحالي في غزة، لأن ما يحدث في غزة يتابعه العالم بأسره، وهذا يوضح مدى فقدان إسرائيل لشعبيتها وتلقيها الكثير من الإدانة”.
بين الطموحات الأمنية والاقتصادية، تبدو إسرائيل عازمة على ترسيخ حضورها في الساحل الإفريقي. غير أن الطريق ليس سهلا: تعاطف شعبي واسع مع القضية الفلسطينية، منافسة محتدمة مع قوى دولية راسخة، وأنظمة محلية مضطربة تبحث عن توازن بين المكاسب والشرعية. في هذا الممر الممتد بين الصحراء والبحر، قد تجد إسرائيل فرصا جديدة، لكنها ستصطدم أيضا بأسئلة صعبة عن حدود نفوذها وقبولها.



