حين فتحت مصر أبواب المتحف المصري الكبير أمام العالم قبل يومين، لم يكن المشهد مجرد احتفال بحضارة تمتد لآلاف السنين. لم يكن احتفالا بالفنون والتماثيل والجداريات والأسرار القديمة فحسب. كان إعلانا رمزيا، سياسيا وثقافيا في آن واحد، بأن هناك هوية أعمق من تقلبات السياسة، وأن ذاكرة المصريين أبعد وأغنى من أي خطاب حاول اختزالها في عقود أو قرون قليلة.
ولكن مع هذه اللحظة، ظهرت مجددا موجة الاعتراضات ذاتها، الأصوات التي اعتادت الظهور كلما احتفل المصريون بتاريخهم القديم.
تحذيرات من “تمجيد الفراعنة”، اتهامات بـ”تعظيم الكافر”، ودعوات لتذكير الناس بأن “هؤلاء من أهل الجاهلية”.
وكأن الاحتفاء بالتاريخ تهديد، وكأن الهوية لا تتسع لأكثر من رؤية.
لكن يبقى السؤال: من يمتلك حق تعريف مصر؟ ومن يملك مفاتيح ذاكرتها؟
بالنسبة للأزهر، وهو المؤسسة الدينية الرسمية، فإن المتحف “ليس تهديدا للعقيدة أو انحرافا عنها،” كما قال شيخ الأزهر أحمد الطيب.
وفي السياق ذاته، أكد عضو لجنة الفتوى في الأزهر، الدكتور عبد العزيز النجار أن “الاحتفال بالمتحف فخر بتاريخ حضاري عظيم لا يتعارض مع العقيدة. احترام التاريخ شيء، والعبادة شيء آخر”.
ويستشهد عالم أزهري آخر، وهو الدكتور سامي العسالة، بالتاريخ، قائلا: “عمرو بن العاص لم يهدم المعابد، ولم يأمره عمر بذلك. الآثار تُترك لأنها تاريخ لا معبودات”.
تكفير الإسلاميين للتراث الإنساني ليس وليد اللحظة. هم يرون أن الهوية الحقيقية لا يمكن أن تعود إلى ما قبل الإسلام.
سيد قطب، أحد أبرز منظري الإسلام السياسي، كتب في “معالم في الطريق” واصفا الوطنية بـ”العلائق النتنة”، واعتبر الحضارات القديمة “حضارة أصنام”.
لم يقدم سيد قطب في مقولاته تلك نقدا تاريخيا، بل حاول إعادة صياغة مفهوم الهوية على أساس أن الإسلام ليس دينا فقط، بل بداية التاريخ والهوية.
الباحث في تاريخ الحركات الإسلامية، سامح عيد، يشير في حديث مع “الحرة” إلى أن “هذه التيارات تعتبر أن تاريخ مصر يبدأ بالإسلام، وما قبله حضارات بائدة. الاحتفاء بالفرعونية يُفهم لديهم كخطوة لمحو ما يسمونه الهوية الإسلامية”.
أما طارق البشبيشي، القيادي السابق في جماعة الإخوان والباحث في شؤون الحركات الإسلامية، فيروي لـ”الحرة” حادثة تختصر رؤية الإسلاميين إلى التاريخ والتراث، ما قبل الإسلام.
يقول “في رحلة داخل معبد الكرنك، كان الهتاف: ‘إسلامية لا فرعونية’”، ويضيف قوله: “تمت تربية الأعضاء على كراهية كل ما يرمز للتاريخ المصري القديم”.
لكن الظاهرة لا تقتصر على مصر.
في أفغانستان فجّرت حركة طالبان تماثيل بوذا في باميان عام 2001.
وفي العراق وسوريا، دمّر تنظيم داعش آثار الموصل ومدينة تدمر الأثرية. وفي مصر بعد 2011، ظهرت دعوات من شخصيات متشددة لتغطية أو إزالة التماثيل، لكنها بقيت على مستوى الخطاب ولم تتحول إلى فعل ممنهج.
الباحث في الإسلام السياسي، طارق أبو السعد يرى أن “موقف الإسلاميين ليس مسألة دين، بل مسألة صراع على هوية البلد”.
ويضيف في حديث لـ”الحرة”: “أي رمز وطني جامع يهدد مشروعهم”.

أحمد الفقي
صحفي ومنتج رقمي عمل مع مؤسسات إعلامية دولية وإقليمية، بخبرة في تغطية الشؤون السياسية وإدارة المحتوى.


