باستثناء وادي غزة، الذي يعتبر أقرب الى تجمع مائي ملوّث، لا يمرّ أي نهر معتبر في أراضي قطاع غزة، حتى أن هذا المجرى بالكاد يصل إلى البحر، بسبب ضعف الدفق المائي بعد بناء سدود عليه، خنقت المياه وحولتها إلى تجمع لمجاري الصرف الصحي.
هذا المقال، في الواقع، ليس عن البيئة أو الثروة المائية في غزة. بل إن الحديث عن نهر يمرّ في غزة مرده إلى الخط الأصفر (أنظر الخريطة) الذي رسمته إسرائيل عبر بلوكات اسمنتية صفراء، ليقسم القطاع بين الشرق والغرب. هذا الخط الأصفر يعمل بمثابة نهر. كيف؟

لفهم ذلك علينا الانتقال إلى لبنان، وتحديداً إلى العام 1978، حيث شكّل نهر الليطاني منذ ذلك التاريخ عنواناً يرسم أفق المواجهة العسكرية بين إسرائيل ولبنان على اختلاف الجهة التي تتولى القتال في الجانب اللبناني.
في العام 1978 اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان في عملية عسكرية حملت اسم النهر. كان هدف القوات الإسرائيلية من “عملية الليطاني” إبعاد المقاتلين الفلسطينيين عن الحدود الإسرائيلية إلى ما بعد النهر. في صيف 1982، وبعد أربع سنوات فقط، شنت إسرائيل حملة ثانية لإبعاد المقاتلين الفلسطينيين أربعين كيلومتراً عن حدودها. عبر الجيش الإسرائيلي نهر الليطاني ثم أكمل إلى العاصمة بيروت ونجح في إبعاد المقاتلين الفلسطينيين إلى خارج لبنان عبر البحر. بعدها، انسحب الجيش الإسرائيلي وأبقى على معظم المنطقة الواقعة جنوبي النهر محتلة حتى العام 2000.
في العام 2006، عادت الحرارة الأمنية والعسكرية لترتفع على ضفاف نهر الليطاني. خطف حزب الله جنوداً إسرائيليين فردت إسرائيل بحملة عسكرية لاستعادتهم وفرض الأمن على حدودها. بعد ٣٣ يوماً من القتال، انتهت الحرب إلى تسوية أرساها القرار الدولي 1701. نصّ القرار حرفياً على ” إقامة منطقة بين الخط الأزرق والليطاني خالية من أي مسلحين أو ممتلكات أو أسلحة غير تلك التي تنشرها في المنطقة الحكومة اللبنانية وقوة الطوارئ الدولية”.
صمد هذا القرار حتى الثامن من أكتوبر 2023 حينما أطلق حزب الله من المنطقة جنوبي نهر الليطاني هجمات صاروخية ضد إسرائيل لمساندة حماس في غزة. في نهاية سبتمبر 2024 أعلنت إسرائيل عن حملة عسكرية جديدة لطرد مقاتلي “حزب الله” عن حدودها ودفعهم بالقوة إلى شمال النهر. نجحت الحملة بعد توقيع لبنان اتفاقاً لوقف إطلاق النار قضى بنزع سلاح حزب الله في المنطقة جنوب النهر، ولا يزال الاتفاق موضع تجاذب لتنفيذه بالكامل.
الخط الأصفر هو بمثابة نهر الليطاني بالنسبة إلى غزة. يلعب الخط الأصفر دور النهر، ويطرح في “جريانه” أسئلة عن التماثل بين الحالة اللبنانية، والحال الذي وصلت إليها الأمور في غزة. ومن هنا، خرج مصطلح “لبننة” غزة، أي اعتماد النموذج اللبناني، خصوصاً الذي خلصت إليه الأمور بعد سنتين منذ السابع من أكتوبر 2023.
إيهود إيران، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة حيفا، يشرح الأسباب التي أدت إلى هذا التشبيه بين الحالة اللبنانية والحالة في قطاع غزة: “الصدمة دفعت إسرائيل لتغيير موقفها من احتواء التهديدات إلى قمع أي تهديد ناشئ في مهده”. استقرت إسرائيل على فكرة نموذج ما بعد 7 أكتوبر اللبناني كـ”منطقة معزولة بالنيران حيث يحتفظ سلاح الجو الإسرائيلي بحرية الحركة” ضد أهداف “حزب الله”، لتصبح هذه هي الحالة المفضلة على الجبهتين.
بالنسبة إلى إيهود إيران لن تسمح إسرائيل بأي نوع من السلاح في قطاع غزة لمنع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر. كما أنهم “لا يريدون أي سلاح يهدد الحدود الاسرائيلية في لبنان”.
لكن هناك اختلافات بين لبنان وغزة يلاحظها الخبراء، الذين تحدثت إليهم “الحرة،” في الشأنين الإسرائيلي والفلسطيني. فالباحث في معهد دراسات الأمن القومي كوبي مايكل، يرى أن هناك اختلافاً ملحوظاً بين غزة ولبنان. فبين الخط الأصفر والحدود الإسرائيلية، تسيطر قوات الدفاع الإسرائيلي بالكامل على حوالي 50% من أراضي قطاع غزة ولديها “قوات على الأرض في تلك البقعة”. في المقابل، يتابع مايكل، لا يسيطر الجيش الإسرائيلي على جنوب لبنان “بوجود عسكري على الأرض” إلا بخمسة مواقع فقط على طول الحدود.
من جهته، يشير الصحفي المختص في الشأن الفلسطيني محمد دراغمة إلى أن قطاع غزة صغير جداً، مساحته 365 كم مربع، وهي “مساحة مدينة صغيرة بالمقارنة مع المساحة التي نتحدث عنها في لبنان “. وفي غزة، وعلى عكس ما حدث في لبنان، يريد الإسرائيليون والأميركيون، بحسب دراغمة “أن يملؤوها بالسكان”، أي المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي ويقيمون فيها مراكز إيواء ويريدون إعادة الحياة إليها وتوفير فرص عمل للفلسطينيين المتواجدين فيها. أما المنطقة غربي الخط الأصفر في غزة، والتي ستكون تحت سيطرة “حماس”، فستتعمد إسرائيل محاصرتها وضربها ومنع إعادة إعمارها، بحسب دراغمة، لمنع “حماس” من استرجاع قوتها العسكرية، وسيكون لها، كما هي الحال في لبنان، حرية الحركة لضرب أي أهداف في الجزء الغربي من القطاع.
ما يخشاه الفلسطينيون، بحسب دراغمة هو “سيناريو التهجير البطيء”. ستبدأ الناس في المنطقة الغربية (من الخط الأصفر) بـ “الزحف والهجرة والهرب” إلى المنطقة الشرقية بحثاً عن حياة وعمل وأكل، أو عبر البحر إلى خارج غزة، بما أن الحدود مع مصر مقفلة. وهدف إسرائيل من ذلك هو عزل حماس وجعل التواجد بالقرب من مقاتليهم مصدر خراب وجوع. بعد تسرب الناس، سيبقى عدد مقاتلي حماس محصوراً، ما يمنح إسرائيل الفرصة للقضاء على من تبقى منهم.
حتى الآن، بحسب دراغمة، ترفض السعودية والإمارات الدفع لإعادة إعمار غزة “من دون حل سياسي نهائي”، ويرون ذلك “هدراً للأموال”. لكن الدول العربية ستساهم في إعادة الحياة إلى المنطقة الشرقية، من دون إعادة اعمارها بشكل كامل، فيما تبقى المنطقة الغربية مدمّرة حتى التوصل إلى حل سياسي نهائي يضمن لإسرائيل عدم تكرار السابع من أكتوبر.
عناصر الشبه بين الحالة اللبنانية والحالة في عزة، تظهر في المقارنة بين عمل قوة الاستقرار الدولية (ISF) التي تشكلها الولايات المتحدة لمتابعة وقف إطلاق النار في غزة، وما يسمى “الآلية” التي تراقب وقف إطلاق النار في لبنان. في الخطة الأميركية، وهو السيناريو المثالي، كما يصفه كوبي مايكل، يتم تفكيك حماس ونزع سلاحها، وبعدها تكون هناك حكومة تكنوقراط، مع قوة دولية لتحقيق الاستقرار على الأرض ومجلساً للسلام. هذا يتطلب من إسرائيل الانسحاب من كامل غزة والتنسيق مع القوة الدولية لمنع أي محاولة للتسلح من حماس، وإذا فشلت هذه القوة، تماماً كما يحدث في لبنان، يتدخل الجيش الإسرائيلي ليضرب حماس، و “هو شيء صرنا نفعله بشكل اعتيادي في لبنان هذه الأيام”.
وكما هي الحال في لبنان، يستبعد مايكل أن تنجح هذه الخطة في غزة، لأن حماس لن تمتثل، وإن كان هناك تصريحات لمسؤولين من “حماس” يتحدثون عن تعاون لإنجاح الخطة.
يشير إيهود إيران إلى أن نموذج “اللبننة /الخط الأصفر” قد يسمح بإعادة إعمار المناطق التي تم تطهيرها من حماس، في مرحلة أولى المنطقة شرقي الخط الأصفر. وبالمقارنة مع لبنان، قد تصبح تلك المنطقة شبيهة بالمنطقة الأمنية التي كانت تسيطر عليها إسرائيل في جنوب لبنان (2000-1985)، حيث تعايشت مع سكان تلك المناطق من اللبنانيين، وأمنت الكثير من الخدمات الاجتماعية والإنمائية في تلك المناطق، بحسب قوله.
لكن هذا الأمر يخلق تحديات كثيرة، منها التزام الأطراف كلها، وقبول السكان المحليين الذين قد يردعهم الخوف من “حماس” ومن اتهامهم بالعمالة لإسرائيل. كما أن المأزق الفلسطيني يكمن، بحسب إيهود إيران، في أن التعامل مع المعاناة الإنسانية للسكان في غزة، قد يعني، من وجهة نظر فلسطينية، محاولة لـ “نزع تسييس القضية”، وهو ما قد يؤثر بشكل أوسع على القضية الفلسطينية.
أما الخيار الأنسب للإسرائيليين فهو، بحسب كوبي مايكل، سيناريو المنطقتين الشرقية والغربية، يفصل بينهما الخط الأصفر، خصوصا أن “المرجح أن حماس لن تمتثل لسحب سلاحها، تماما كما حدث مع “حزب الله” في لبنان”، لذلك سيكون من الأفضل لإسرائيل ان تقوم بالعملية بطريقة تدريجية ومتوازية، مما يعني، بحسب مايكل، “البدء في إقامة وتطبيق الخطة في الجزء الشرقي. أما في الجزء الغربي، فعلى إسرائيل مواصلة القتال حتى الانتهاء من تفكيك حماس”.

رامي الأمين
كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)


