تُظهر الصورة صفاً دراسياً خالياً في مدرسة ببلدة دابتشي في ولاية يوبي شمال شرق نيجيريا، حيث فُقدت عشرات الطالبات بعد هجوم شنّته جماعة بوكو حرام على القرية، 23 فبراير/شباط 2018. رويترز/أفولابي سوتوندي
هل تساءلت يوما لماذا تخشى الجماعات الإرهابية التعليم إلى هذا الحد؟ لماذا تصرّ تنظيمات مثل طالبان وداعش والقاعدة وبوكو حرام على إغلاق المدارس، حرق الكتب، خطف الطالبات، وتهديد المدرّسين؟
قد يبدو الأمر غريبا في البداية، لكنه أكثر من مجرد رفض للتعليم الغربي أو العلماني، إنه صراع على السلطة، على تشكيل الوعي، وعلى التحكم بالمجتمعات من الداخل.
تخيل أن اسم “بوكو حرام” نفسه ليس مجرد تسمية عابرة. فهو يعني “التعليم الغربي حرام”. مجموعة كاملة تبني هويتها على فكرة أن العلم خطر وأن المعرفة تهديد يجب تدميره.
هذا ما دفعنا للبحث في الرابط بين التطرف ومحاربة التعليم، وكيف تتحوّل المدرسة إلى ساحة مواجهة بين مجتمع يريد التقدم وجماعات تريد أن تبقيه تحت الظلام.
طرحنا هذا الموضوع على مبين الشيخ، الخبير الكندي الأفغاني في مكافحة التطرف والإرهاب، والرجل الذي مرّ بتجربة شخصية فريدة، فقد كان في بدايات شبابه جزءا من تيار إسلامي متشدد، قبل أن يتراجع ويعمل سرا مع جهاز الاستخبارات الأمنية الكندية، مساهِما في إحباط عدة عمليات إرهابية.
يقول مبين الشيخ، إن الإسلاميين يرون التعليم تهديدا لأيديولوجيتهم، لأنها أيديولوجية قائمة على السيطرة، فهمهم للأمور فاشي. “التعليم العلماني بنظرهم إهانة للدين نفسه، ولهذا يرفضونه ويسعون لإبعاده عن الناس”.
هذا التفسير يسلّط الضوء على جوهر الصراع، بين أن التعليم يعطي الناس أدوات التفكير. والتفكير يهدد سلطة المتطرفين.
بين التسعينيات وبداية الألفية، ومع صعود التنظيمات المتشددة في العالم العربي وأفريقيا وآسيا، بدأ الهجوم على المدارس يتخذ شكلا ممنهجا. وبحسب الشيخ ليست الحوادث التي نشاهدها مجرد انفجارات عشوائية أو ردود فعل غاضبة، بل سياسة مدروسة تهدف لتجريد المجتمعات من مناعتها الفكرية.
يوضح مبين الشيخ في لقائه مع “الحرة” أنه عندما يقتل المتطرفون معلّما لأنه كان يدرّس أمورا يعتبرونها “خاطئة”، فهم “يرسلون رسالة واضحة لبقية المعلمين: قد يكون دوركم التالي”.
ويقدّم مبين الشيخ مثالا من نيجيريا حيث خطفت بوكو حرام مئات الفتيات لأنهن ذهبن إلى المدرسة، فقد خطفت الجماعات المتشددة أكثر من ألف فتاة خلال العقد الأخير.
ويقول الشيخ إن هذه الممارسات تنتج عن قصد مناخا عاما من الخوف يجعل الأهل يترددون قبل إرسال بناتهم للتعلم. والنتيجة؟ مجتمع يسهل السيطرة عليه.
بحسب دراسة دولية، فإن من بين حوالي 141.966 هجوما إرهابيا مسجلا في قاعدة بيانات الإرهاب العالمية من 1970 حتى عام 2014 نحو 2.58% استهدفت أهدافا تعليمية، وأكبر عدد هجمات على التعليم كان في باكستان.
ويتبين من خلال هذه الدراسة أن أكثر من نصف الضحايا في مثل هذه الهجمات هم في باكستان، العراق، روسيا، وسوريا.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط، أكثر من 6000 هجوم استهدف مدارس وجامعات حول العالم، 9000 طالب وأستاذ تعرضوا للقتل أو الإصابة أو التهديد أو الخطف.
وفي أفغانستان، حرمت 2.2 مليون فتاة من التعليم فوق الصف السادس، ومئات آلاف النساء طُردن من الجامعات، منذ عودة طالبان إلى الحكم عام 2021.
في المنطقة العربية، تختلف المشاهد بين بلد وآخر، لكن النتيجة واحدة: تقييد التعليم، خصوصا تعليم الفتيات. فمع صعود داعش وجبهة النصرة في سوريا تم إغلاق مدارس البنات في عدة مناطق وفرضت مناهج دينية مشوّهة، كما تم منع النساء من التعليم الجامعي.
أما في العراق، فحول تنظيم داعش بين عامي 2014 و2017، المدارس إلى معسكرات تدريب، وحظر المواد العلمية كالفيزياء والأحياء، وكان هناك فصل كامل بين الجنسي، ما سبب انقطاع جيل كامل عن التعليم لمدة خمس سنوات بحسب دراسة لليونيسف.
يرى الباحث المغربي محمد عبد الوهاب رفيقي أن المشكلة لا تتوقف عند الجماعات المسلحة، بل تمتد أحيانا إلى المدارس الرسمية نفسها، ويضيف أن “هناك مناهج وضعت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات ما تزال تكرّس قيما تخدم خطاب الجماعات المتطرفة، مثل التفريق بين المسلم وغير المسلم، وتعزيز خطاب الكراهية، وتقديم مفهوم القتال والجهاد خارج سياقه التاريخي”. هذه المناهج، حين تقفز على الزمن ولا تتطور، تخلق أرضا خصبة يستغلها المتطرفون لتلقين الشباب مفاهيم ظلامية، تجعله مهيّأ للانخراط في الجماعات المسلحة.
في اليمن، أيضا، ومع توسّع نفوذ الحوثيين، ارتفع تسرب الفتيات من المدارس إلى 40% في بعض المناطق، ويواجه المعلمون تهديدا مباشرا، مع منع المواد الفنية والموسيقية وفرض الزي “الشرعي الموحّد”.
في المغرب الكبير الوضع مختلف تماما، بحسب رفيقي، لأن الجماعات المتطرفة موجودة في مناطق بعيدة ليست لها دول. هي جماعات مثلا موجودة اليوم سواء في بعض المناطق في ليبيا، وأيضا موجودة على الساحل الغربي لأفريقيا، لكنها تنشط في صحراء واسعة ليس فيها مدن، ليس فيها مراكز حضرية ومدنية. وسواء تحدثنا عن فلول داعش في هذه المناطق أو عن التنظيمات الموالية لتنظيم القاعدة، تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي أو غيرها من بعض التنظيمات الصغيرة المتواجدة على الساحل، فهي “عصابات موجودة في مناطق متفرقة مختبئة ليست لها مناطق تحوزها، ليست لها مناطق تحكمها “.
لكن السؤال الأصعب والأوضح، لماذا تركز الجماعات المتطرفة هجماتها على تعليم البنات؟
يجيب مبين الشيخ أن إن تعليم النساء يشكّل تهديداً حقيقياً لهذه الجماعات المتطرفة، لأنه يمنحهن القدرة على التفكير النقدي، وخصوصاً عندما يصبحن قادرات على قراءة النصوص الدينية وفهمها بأنفسهن. عندها تستطيع المرأة أن تقول لهم: “مهلا، ما تزعمون أنه يمثل الإسلام لا يتوافق مع ما تقوله النصوص عن حقوق المرأة وحقوق الآخرين”. هذا الوعي يربك خطابهم ويقوّض مشروعهم.
الغالبية الساحقة من هذه الجماعات يقودها رجال يسعون للاحتفاظ بالسلطة والتحكم بالبنى الاجتماعية، ويعتقدون أنهم وحدهم من يملك حق تحديد من يتولى مواقع النفوذ. “وبما أن التعليم قوة، فإن حصول المرأة عليه يعني اكتسابها جزءا من هذه القوة، الأمر الذي يهدد سيطرتهم. ولذلك فهم غير قادرين على تقبّل فكرة أن التعليم يمكن أن يمنح النساء مكانة وقدرة تنافس سلطتهم المحتكرة”.
يقدّر البنك الدولي أن الدول التي تمنع تعليم البنات تخسر سنويا بين 15 إلى 30 مليار دولار من إنتاجها الاقتصادي. لكن خبراء يقولون إنه من الصعب تأمين كل المدارس، لأن الأهداف كثيرة جدا. لذا من الضروري الاستثمار في استباقية ودعم التعليم الديمقراطي وحقوق الإنسان.



