في عام تتراجع فيه أسعار النفط ويزداد فيه عدم اليقين في الأسواق العالمية، تتجه السعودية إلى عام مالي جديد بعجز يبلغ 165 مليار ريال، وفق بيان الموازنة التمهيدي لعام 2026. ورغم الانخفاض في الإيرادات، تشير الأرقام إلى نية واضحة للحفاظ على مستويات إنفاق مرتفعة، في خطوة تعكس رهانا متواصلا على مشاريع التحول الاقتصادي ومواصلة توسعة الاقتصاد غير النفطي.
تقدّر الحكومة الإيرادات بنحو 1.147 تريليون ريال مقابل إنفاق يبلغ 1.313 تريليون ريال. هذا الفارق يعيد طرح سؤال يتردد كثيرا بين المستثمرين والمحللين: إلى أي مدى تستطيع المملكة تحمّل فجوة مالية متزايدة في فترة أسعار نفط منخفضة؟
يرى الخبير الاقتصادي عبدالله الجبلي أن تراجع متوسط الأسعار هو المحدد الأساسي لاتساع العجز. ويقول إن “العجز يعود إلى مجابهة انخفاض متوسط سعر النفط لعام 2025 مقارنة بالعام 2024… ولذلك هناك انخفاض في متوسط سعر البرميل جابهته الدولة بالاقتراض”.
ويضيف أن الحكومة تفضّل الحفاظ على مستويات إنفاق مستقرة، موضحا أن “خفض الإنفاق كان سيؤثر بشكل غير جيد على الاقتصاد” في وقت يدخل فيه عدد من القطاعات غير النفطية مرحلة توسع.
ويقول كريستيان كوتيس أُلريكسن، الزميل في معهد بيكر للدراسات وكبير الباحثين في شؤون الشرق الأوسط، إن السعودية تتحرك في اتجاه مختلف عن نمطها التقليدي، مضيفا أن السعودية تخالف نمطها التاريخي المرتبط بالدورة الاقتصادية، فهي تزيد الإنفاق في فترة انخفاض أسعار النفط. هذا التحول يحمل مستوى معتدلا من المخاطر، لأن نمو القطاع الخاص والاقتصاد غير النفطي ما زال مرتبطا إلى حد ما بالقطاع العام الذي يقود المشاريع الكبرى.
ويضيف أن المملكة تمتلك القدرة على تمويل العجز لعدة سنوات، لكنه يلفت إلى مؤشرات واضحة إلى مراجعة الإنفاق على بعض المشاريع الضخمة. يقول “يمكن للمملكة تحمّل العجز في المدى القريب، ورغم ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج، فإن الأسس المالية القوية تدعم قدرة الاقتراض… لكن هناك مؤشرات قوية على تقليص الإنفاق على بعض المشاريع العملاقة”.
وحول قدرة مشاريع الرؤية على تحقيق عوائد سريعة، يقدم أُلريكسن تقييما حذرا، بالقول: “قد تبدأ السياحة والصناعات المتقدمة في تحقيق عوائد ملموسة… أما التعدين والمعادن الحرجة فواعدة، لكنها تحتاج فترة أطول. من غير المرجح أن يستمر التركيز المبكر على الهيدروجين الأخضر، وقد يحدث الأمر نفسه مع التركيز الحديث على الذكاء الاصطناعي”.
ويضيف أن بعض أهداف “رؤية 2030” قد تمتد لما بعد هذا التاريخ، خاصة مع كأس العالم 2034 الذي يضع “أفقاً زمنياً جديداً لصياغة السياسات الاقتصادية”.
ويعرض الاقتصادي فايز الحمراني أسبابا إضافية لهذا النهج، موضحا أن “المملكة، رغم التحديات استطاعت التعامل مع تذبذبات أسعار النفط عند مستويات 60 دولار من خلال التحول الهيكلي، والذي أسهم في تحسن ملموس في الأنشطة غير النفطية”.
ويشير إلى أن عجز 2026 قابل للتغير إذا ارتفعت أسعار النفط أو تحسنت الإيرادات غير النفطية، لافتاً إلى أن “عجز 2025 بلغ 245 مليار ريال نتيجة تراجع الإيرادات وثبات مستوى الإنفاق”.
وعقب إقرار الميزانية، قال وزير المالية السعودي محمد بن عبدالله الجدعان إن “ميزانية 2026 توازن بين متانة المركز المالي واستدامة المالية العامة ودعم النمو الاقتصادي”، بينما تشير أرقام الوزارة إلى خفض الإنفاق الرأسمالي بنسبة 6%، ونقل جزء من الأنشطة الاستثمارية إلى صندوق الاستثمارات العامة.
وتتوقع الحكومة نموا فعليا بنسبة 4.6% في عام 2026، يعتمد بشكل أساسي على نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.8%، إلى جانب تحسن في الاستثمار الأجنبي المباشر وتراجع البطالة.
يشير عبدالله الجبلي إلى أن مراحل التشغيل التدريجي لمشاريع مثل البحر الأحمر والدرعية بدأت تساهم في تغطية بعض التكاليف التشغيلية، موضحا أن “كل مرحلة تغطي نفقاتها التشغيلية وتساهم في تمويل ما يليها”.
ويرى أن تراجع الإنفاق على السلع والخدمات يعكس نتائج الخصخصة، ويقول إن حصة التعليم العالي من الميزانية انخفضت خلال 10–15 عاما من نحو 24% إلى 15%.
إيكارت فورتز من معهد GIGA يرى أن طول فترة الأسعار المنخفضة يفرض تحديات أكبر، و”إذا طال أمد تراجع أسعار النفط، فقد تحتاج المملكة إلى إعادة أصول من الخارج أو زيادة الاقتراض”.
ويضيف أن بعض مشاريع الرؤية ما تزال في مرحلة تكلفة أكثر منها عائداً، بينما يظهر قطاع التعدين والهيدروجين إمكانات على المدى الطويل.
تدخل السعودية 2026 بخيارات مالية توسعية، ورهانات على نمو غير نفطي يتقدم بسرعة، وقطاع خاص يحاول اللحاق بإيقاع المشاريع الكبرى. وبينما تشير المقاربات الحكومية إلى ثقة بمرونة المالية العامة، ترى التقييمات الدولية أن الفترة المقبلة ستختبر قدرة المملكة على موازنة العجز، خصوصاً إذا استمرت دورة أسعار النفط الحالية لفترة أطول مما هو متوقع.
سكينة المشيخص
كاتبة و باحثة و مقدمة برامج سعودية



