في واشنطن، هناك قناعة تُقال همسا: سوريا لم تعد ملفا مجمّدا، لكنها أيضا لم تصبح قصة نجاح.
الإدارة الأميركية رفعت الكثير من العقوبات، وفتحت نافذة سياسية غير مسبوقة، وراهن الرئيس دونالد ترامب شخصيا على الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع. لكن على الأرض، الصورة أكثر تعقيدا.
توقعات مرتفعة، اقتصاد هش، فصائل مسلحة غير راضية، ودولة تحاول أن تُولد لكنها لا تزال محاطة بالحطام.
هل ترى واشنطن سوريا كما هي فعلا، أم كما تريد أن تراها؟
وهل تراهن على الاستقرار، أم تكتفي بإدارة المخاطر ثم الانسحاب؟
ضيفنا عاد لتوّه من دمشق، ورأى ما لا يظهر في البيانات الرسمية.
ويل تودمان، كبير موظفي معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، وأحد أكثر الأصوات متابعةً لتقاطعات السياسة والأمن في سوريا، ينقل لنا صورة سوريا كما رآها على الأرض، لا كما تُقدَّم في الإيجازات السياسية.
إليكم الحوار كاملاً:
جو الخولي: عدت حديثا من سوريا، في لحظة تعتبرها واشنطن لحظة تحول. إلى أي مدى ترى أن السياسة الأميركية الجديدة تعكس ما يحدث فعليا على الأرض؟
ويل تودمان: خلال العام الماضي، تغيّرت السياسة الأميركية تجاه سوريا بطرق كان من الصعب تخيّلها سابقًا. الرئيس ترامب راهن بشكل واضح على أحمد الشرع، ومنحه مساحة للتنفس ومحاولة استثمار هذه اللحظة. هذا الدعم مهم، لأن القيادة الجديدة تحتاج إلى غطاء دولي كي تتمكن من إعادة لملمة البلد.
لكن في الوقت نفسه، الوضع هش جدًا. هناك إنجازات حقيقية لا يمكن إنكارها. حرية التعبير اليوم في دمشق مثلًا أمر غير مسبوق مقارنة بعهد بشار الأسد. الجلوس في المقاهي، والاستماع إلى الناس وهم ينتقدون الرئيس علنًا، ويتحدثون عن آمالهم ومخاوفهم، كان مستحيلًا قبل سنوات قليلة.
هذا توصيف إيجابي. لكنك أشرت أكثر من مرة إلى فجوة بين التفاؤل السياسي في واشنطن والواقع السوري. أين تظهر هذه الفجوة بوضوح؟
في التوقعات. رفع العقوبات خلق موجة أمل كبيرة لدى السوريين، وربما أكبر مما يستطيع الواقع تحمّله. الاقتصاد لا يزال في أزمة عميقة. نعم، تحسن التيار الكهربائي نسبيًا، لكن البطالة واسعة، والفقر شديد، وفرص العمل شبه معدومة.
الخطر هنا أن الناس بُنيت لديهم قناعة بأن حياتهم ستتغير بسرعة. وعندما لا يحدث ذلك، يبدأ الإحباط. هذا الإحباط قد يتحول إلى شرخ اجتماعي وسياسي، وقد يفتح الباب أمام توترات داخلية جديدة.
هل ترى أن واشنطن تقلل من حجم هذه المخاطر؟
إلى حد ما، نعم. هناك تفاؤل مفرط في واشنطن. الإدارة الأميركية تعتقد أن رفع العقوبات وفتح الباب أمام الاستثمار كافيان لبدء التعافي. لكن المشكلة أن العالم اليوم ليس مستعدًا لضخ أموال كبيرة في سوريا.
المساعدات الإنسانية تراجعت عالميًا، ليس فقط من الولايات المتحدة بل من أوروبا أيضًا. التحول نحو استراتيجية تعتمد على الاستثمار بدل المساعدات مفهوم نظريًا، لكنه عمليًا يحتاج وقتًا طويلًا حتى يشعر به الناس.
على الأرض، كيف كان مزاج السوريين تجاه القيادة الجديدة؟
هناك طاقة واضحة في المجتمع المدني. كثيرون عادوا من الشتات، خصوصًا من دول الجوار، ولديهم رغبة حقيقية في المساهمة بإعادة بناء بلدهم. هذا عنصر إيجابي ومهم.
لكن في المقابل، هناك قلق عميق داخل بعض الفصائل المسلحة التي باتت جزءًا من الدولة. بعض هذه المجموعات ترى أن الرئيس الشرع ذهب بعيدًا في التقارب مع الغرب، ومع إسرائيل تحديدًا. عدم الرد على الضربات الإسرائيلية في الجنوب، وعدم التصعيد، تنظر إليه هذه الفصائل كتنازل يتجاوز ما كانوا مستعدين لقبوله.
هل هذا مجرد تململ، أم خطر حقيقي على تماسك السلطة الجديدة؟
الخطر حقيقي. المشكلة ليست فقط في الفصائل الموجودة خارج الدولة، بل داخلها أيضا. هناك عناصر داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية تحمل أفكارًا أكثر تطرفًا. التعامل مع هذا النوع من التهديد أصعب من مواجهة تنظيم مثل داعش، لأنه تهديد من الداخل.
حادثة تدمر الأخيرة مثال مقلق. السؤال لم يكن فقط من نفذ الهجوم، بل لماذا. هل هو داعش فعلًا، أم شخص تأثر بخطاب متشدد، أو شعر بأن التقارب الأميركي السوري خيانة؟ هذه المنطقة الرمادية خطيرة جدًا.
كيف تغيّر رفع العقوبات، خصوصًا قانون قيصر، حسابات المستثمرين والدول الإقليمية؟
رفع عقوبات قيصر خطوة أساسية. من دونها، لم يكن أي بنك أو مؤسسة مالية مستعدة للتعامل مع سوريا. لكن رفع العقوبات لا يعني تلقائيًا تدفق الاستثمارات.
سوريا ما زالت تُرى كبيئة غير مستقرة. أجزاء كبيرة من البلاد خارج سيطرة الحكومة. الشمال الشرقي تحت إدارة قوات سوريا الديمقراطية، الجنوب يعاني انقسامات، والحدود مفتوحة على احتمالات التصعيد. بناء الثقة سيأخذ وقتًا طويلًا.
هل تعتقد أن التركيز المفرط على رفع العقوبات قد يتحول إلى عبء على القيادة السورية؟
نعم. لأن رفع العقوبات يُسوّق داخليًا على أنه بداية “الانفتاح الكبير”. إذا لم تُترجم هذه الوعود إلى فرص عمل وتحسن ملموس، فقد تتحول إلى مصدر غضب بدل أن تكون إنجازًا سياسيًا.
تحدثت مع سوري عاد من لبنان إلى دمشق بعد سقوط الأسد. بعد أشهر قليلة، بدأ يفكر بالعودة إلى لبنان لأنه لم يجد عملًا يكفي لإعالة أسرته. هذه القصص إذا تكررت، ستبقي سوريا أزمة إقليمية لا وطنية فقط.
ما الذي يمكن لواشنطن فعله الآن لتفادي السيناريو الأسوأ؟
للولايات المتحدة نفوذ كبير، ليس فقط عبر العقوبات، بل عبر الشرعية التي تمنحها للحكومة السورية الجديدة. يمكنها الضغط باتجاه إصلاحات صغيرة لكنها مهمة. قانون للأحزاب السياسية، إطار واضح للاستثمار، قواعد شفافة بدل القرارات الاستثنائية.
وجود أميركي رمزي داخل دمشق، حتى لو لم يكن سفارة كاملة، سيكون مفيدًا. التواصل المباشر يخلق ثقة، ويمنح واشنطن قدرة أفضل على التأثير.
وسط كل هذه التعقيدات، أين ترى سوريا في الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة؟
سوريا اختبار حقيقي لفكرة إنهاء الحروب الطويلة دون ترك فراغ. الإدارة الأميركية تقول إنها لا تنسحب من الشرق الأوسط، بل تقلّص وجودها العسكري. هذا ممكن نظريًا، لكن الواقع الأمني لا يزال هشًا.
داعش لم يُهزم نهائيًا. العلاقة بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية غير محسومة. أي خلل أمني قد يعيد واشنطن إلى نقطة البداية.
في ضوء كل ما رأيته، ما أفضل وأسوأ سيناريو لسوريا خلال السنوات المقبلة؟
أفضل سيناريو هو بقاء الولايات المتحدة منخرطة بعمق، دعمها لمسار أمني متماسك في الشمال الشرقي، ضغطها لإصلاحات سياسية تدريجية، ومعالجة حقيقية للفصائل المتطرفة داخل الدولة.
أسوأ سيناريو هو التفكك مجددًا. فشل اقتصادي، تصاعد عنف داخلي، تراجع الاهتمام الدولي، وقرار غير معلن بعزل سوريا واحتواء أزمتها إقليميًا بدل حلها.
الخطر الأكبر ليس التدخل، بل اللامبالاة.

جو الخولي
جو الخولي صحافي مختص في الشؤون الدولية، يتمتع بخبرة ميدانية تمتد لأكثر من عقدين بين واشنطن العاصمة والشرق الأوسط. وهو خريج جامعة جورجتاون وشارك في برنامج الزمالة الصحافية لشبكة CNN. تتركز أعماله على السياسة الخارجية الأميركية، والسياسة في العالم العربي، والدبلوماسية. بفضل معرفته بالمنطقة وأسلوبه الواضح، يقدّم تغطية تجعل القضايا العالمية المعقدة سهلة الفهم وقريبة من الناس.

