لغز “الوثيقة القادرية”

ما نحن فيه الآن، وما نعانيه في واقعنا المعاصر، يطرح سؤالاً مرّاً: “لماذا نعاني؟”.

نعم نحن نعاني فعلاً. مجتمعاتنا الإسلامية والمسلمون في هذه الدول التي تقول رسمياً في دساتيرها إن الدين الرسمي فيها هو الإسلام، يعانون كثيراً، معاناة أليمة وعديدة. نحن نعاني من غياب الحرية، ونعاني من الإرهاب، ونعاني من الواقع الاقتصادي والاجتماعي. وقد يظن البعض أن هذه المعاناة لها علاقة بالسياسة أو المناهج الاقتصادية المتبعة أو الأطر الاجتماعية والطبقية، وكل هذا موجود بلا شك، لكن المعاناة الأكبر سببها الأكبر هو الخطاب الديني، هو التيار الديني الذي يدير هذه البلاد. ولا أقصد هنا الإسلام السياسي فقط، بل تيار الإسلام التقليدي والمؤسسات التقليدية التي تتحكم في الدولة الإسلامية وتتحكم في المسلمين عبر ما يسمى “الاعتقاد القادري”.

الوثيقة القادرية هي العمود الفقري لأزمة المسلمين منذ 1400عام وحتى الآن. فإذا سألنا: لماذا لم يتقدم المسلمون؟ فالإجابة هي بسبب الاعتقاد القادري. ولماذا لم نر حضارة إسلامية تنمو وتزدهر وتقوى وتستمر وتخلد وتبقى؟ حتى بالمعنى الضيق المحدود عند السلفيين، وهو أن تبقى دولاً سياسية عسكرية مهيمنة وإمبراطورية، فالسبب هو الاعتقاد القادري. ولماذا تنتشر في المجتمعات المسلمة الفتن والصراعات المذهبية والدينية؟ ولماذا تكون هذه المجتمعات رخوة وهشة أمام الإرهاب وجماعاته وتنظيماته؟ كل ذلك سببه الوثيقة القادرية والاعتقاد القادري.

وثيقة “الأخ” القادر بالله

في الدولة العباسية، جاءنا خليفة اسمه القادر بالله، ومن قدرة ربنا أنه حكمنا 41 سنة، ليكون أطول خليفة يحكم حينها. هذا السلطان جاء بعد فترات كانت فيها الحضارة الإسلامية تنتعش وتعلو وتزدهر بوجود التنوع والتعدد، وبوجود فكر المأمون. بغداد وقتها كانت مركز المعرفة والثقافة والترجمة من الحضارات اليونانية والإغريقية. وكان هناك تقدم وعلماء في الطب والرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء. كل هذا الازدهار جاء تحت ستار وسماء التنوع والتعدد وإعلاء العقل الذي كانت تقوده جماعة المعتزلة، الذين كان المأمون ومن خلفه من خلفائه يؤمنون بأفكارهم. لكن الأمر انتهى إلى المتوكل الذي انقلب على التنوع والتعدد وعلى العقل وإعلاء الإرادة الإنسانية واحترام العلم، وبدأنا مرحلة من الهبوط والانحدار حتى وصلنا إلى سنة 408 هجرية مع “الأخ” القادر بالله.

في تلك السنة، ظهر ما يسمى “الاعتقاد القادري” أو الوثيقة القادرية. ويقال إن شيخاً اسمه الكرخي كتبها قبل 60 سنة من إعلانها، وهو كان يحمل عداءً شديداً رهيباً ضد المعتزلة. لكن في المحصلة، هذه الوثيقة تبدو وثيقة جماعية من قبل مجموعة ممن تصوروا في أنفسهم أنهم سادة العلم والعلماء، وكانوا كلهم من الكارهين الحاقدين الرافضين الغاضبين اللاعنين للعقل وللفكرة المعتزلية، وكان لديهم عداء وكراهية محمومة مهووسة ضد الشيعة. ولأول مرة في تاريخنا، يخرج علينا خليفة وسلطة حاكمة تستخدم القهر والقمع والقتل والسجن والجلد وكل ما في يدها من أدوات للبطش والتعذيب والتقتيل والتذبيح، لكي تقول لنا إن هذا هو الإسلام وبس!، وما أراه وما أعتقده هو الدين الوحيد.

دستور القمع

لقد تقرر أن ما ورد في الوثيقة القادرية هو الإسلام بيعينه، وسيقرأ على المسلمين في كافة المساجد الكبرى وساحات الخلافة العباسية، وأن يأخذه كل أمير ووالٍ في ولايته ليكون هو الدستور والقاعدة الدينية الوحيدة المعمول بها. ولم يقف الأمر عند اعتبار هذا الكلام هو اعتقاد الدولة والمسلمين، بل إن من يقول غيره هو كافر وفاسق ويطبق عليه الحد ويقتل.

 ولذلك رأينا في تلك الفترة كيف أن أمير الدولة الغزنوية كان يقتل، بناءً على هذه الوثيقة، كل المعتزلة وكل الشيعة وكل المرجئة وكل أصحاب المذاهب والأفكار المخالفة، في موجات إعدام جماعي وقتل وتحريق، بالإضافة إلى حرق كل الكتب والمخطوطات التي تعبر عن أفكار غير تلك الموجودة في الوثيقة.

كان نص الوثيقة واضحاً جداً منذ البداية، حيث يقول: “هذا اعتقاد المسلمين. ومن خالفه فقد فسق وكفر”. هكذا بكل بساطة أغلق باب الاجتهاد وصودر العقل والمذاهب والأئمة والمفكرون. لقد قرروا أن هذا هو قول “أهل السنة والجماعة”، وهنا يظهر الاحتكار والوصاية. فالشيعة والمعتزلة والإباضية لديهم سنة ويروون عن النبي، فلماذا تحتكرون مسمى السنة لأنفسكم؟ ولماذا تطلقون على أنفسكم “الجماعة” بينما هناك فرق ومذاهب أخرى؟ وإذا كنتم تنتصرون لجماعة المسلمين فلماذا تقتلون وتكفرون الآخرين؟ الوثيقة قالت بوضوح إن من تمسك بهذا القول كان على الحق المبين وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم، وترجى له النجاة من النار ودخول الجنة، ومن نطق بعد سنة 408 هجرية بكلام غيره فهو فاسق أو كافر.

لقد تضمنت الوثيقة تكفيراً وقتلاً لمن يقول إن القرآن مخلوق، وبذلك كفروا فرقة المعتزلة كاملة بكل مفكريها وأنصارها. كما تضمنت تكفير تارك الصلاة، ومنعت الكلام فيما شجر بين الصحابة من خلاف وحروب، وأوجبت حب الصحابة على ترتيب مفروض ومنع تقديم علي بن أبي طالب، أو ذكر معاوية إلا بالخير. إنها الرؤية التي نعيشها الآن، ليس مع السلفيين فقط، بل مع الإرهابيين أيضاً. وأستطيع أن أقول بمنتهى الأمانة إن الاعتقاد القادري والوثيقة القادرية هي “الوثيقة القاعدية” وهي “الوثيقة الداعشية”.

تحالف الوجهين

حقيقة الأمر أن داعش والقاعدة لا تنفذ ولا تطبق شيئاً إلا وهو مستند على ما هو موجود في التراث الإسلامي وموجود في الوثيقة القادرية، وفيما اعتبره هؤلاء “أهل السنة والجماعة”. وأتحدى أن يكون هناك أي فعل إجرامي وحشي إرهابي أقدمت عليه داعش أو القاعدة أو النصرة إلا وهو مستند على تفسير آية أو حديث نبوي أو فتوى من الأئمة الأوائل. كل هذا القتل والذبح والسب والتعذيب واستباحة الدماء وقصف الرؤوس وتدمير القرى واغتصاب النساء، تم وفق هذا الاعتقاد الذي يقولون عنه إنه الإسلام، وإن من يخالفه فقد فسق وكفر. إن هذا المسار هو الذي أغلق باب الاجتهاد وباب الاختلاف وباب التجديد.

والمصيبة الكبرى أن للوثيقة القادرية شقين؛ شق يبدو ناعماً تقدمه المؤسسات الدينية الرسمية والتبني الحكومي والسلطاني، وهذا الوجه الناعم يتعامل مع “الكفر والفسق” برقة، فيستخدم قانون ازدراء الأديان أو المصادرة والمنع. وهناك الوجه الخشن العنيف الفظ الذي تتبناه التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي تقتل وتفجر. لكن الاثنين عنوانهما وشعارهما ودستورهما هو الاعتقاد القادري الذي يقتل الآخر الذي لا يؤمن بالحق المطلق والصواب التام الذي يدعونه. فمن يختلف معهم في رؤية أو منطق أو اجتهاد أو خطاب حول الإسلام، فهو عندهم فاسق أو كافر.

إن هذين الوجهين، الناعم والخشن، يريدان فرض أفكارهما ودينهما علينا، وهذا الاعتقاد يحظى بإجماع ممن يعتقدون في أنفسهم أنهم أشاعرة أو أهل سنة وجماعة أو حنابلة، وهم راضون عنه جداً ويرونه هو الحق. ومن هنا جاءت المصيبة. نعم هناك مصيبة، وإذا لم تكن تعتقد أن هناك مصيبة فلا معنى لكل ما قلته. إننا نعيش آثار صك الجمود الذي كتب قبل ألف عام ولا يزال يتحكم في رقابنا وفي مستقبلنا، وإذا لم ندرك حجم هذه الكارثة، فسنظل نعاني كثيرا.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading