حرب الـ100 عام على فكرة

مشهد في الأزهر عام 1925.

في منتصف شهر أغسطس من عام 1925، أي قبل نحو مئة عام، شهدت مشيخة الأزهر حدثا فارقا في تاريخ الفكر السياسي والديني الحديث. دخل إلى مكتب هيئة كبار العلماء، التي كان يرأسها شيخ الأزهر محمد الجيزاوي، شيخٌ في السابعة والثلاثين من عمره، هو الشيخ علي عبد الرازق. بعد أن فتح الباب، ألقى التحية قائلا: “السلام عليكم”، لكنه لم يتلق ردا لا من شيخ الأزهر ولا من أيٍ من الأعضاء الأربعة والعشرين للهيئة. هذا الصمت الرمزي، الذي يخالف أبسط مبادئ الدين المعروفة برد التحية، كان بمثابة إعلان مسبق عن طبيعة الموقف: لقد كانت محاكمة لفكرة وشخص، لا مجرد نقاش فكري، وفق ما يرى الكاتب والمفكر إبراهيم عيسى في هذه الحلقة من برنامجه على منصات “الحرة” الرقمية. أُعيد تحريره ليناسب القراءة مع الاحتفاظ قدر الإمكان بحرفية النص كما قدمه على الشاشة.

جلس الشيخ علي عبد الرازق في مقعد قبالة شيخ الأزهر، الذي وجه إليه اتهامات مباشرة، واصفا كتابه “الإسلام وأصول الحكم” بأنه “كتاب ضال وضلال” و”كتاب كفر”. وعلى الرغم من أن الشيخ عبد الرازق كان يحمل في جعبته مذكرة قانونية يؤكد فيها عدم أحقية الهيئة في محاكمته طبقا لقانون الأزهر، لم يعيروا كلامه أي اعتبار، وطلبوا منه قراءة مذكرته، التي لم تجدِ نفعا. كان هذا المشهد حاسما ومؤثرا ودالا على طبيعة الصراع، حيث لم تكن المحاكمة نقاشا حرا، بل كانت حرباً على الفكرة وعلى الشخصية التي تمثلها، واتخذت الأحكام المسبقة طابعا رسميا يسبق أي نقاش.

الكتاب الذي هز المؤسسة: “الإسلام وأصول الحكم”

لم يكن علي عبد الرازق شخصية عابرة، فقد كان خريجا من الأزهر وحاصلا على شهادة “العالمية” التي كانت تعادل وقتها درجة البكالوريوس. كما أنه درس في أوروبا لمدة ثلاث سنوات، وعاد ليعمل قاضيا شرعيا في محاكم الأحوال الشخصية التي أسسها الإمام محمد عبده. وينتمي عبد الرازق إلى عائلة بارزة في مصر، كان لها نفوذ واسع في الميادين السياسية والثقافية والدينية.

أما الكتاب الذي كان محور الصراع، “الإسلام وأصول الحكم”، فقد كان نتاج عمل استمر عشر سنوات، ما ينفي كونه مجرد رد فعل آني على سقوط الخلافة العثمانية في عام 1925. بل هو خلاصة رؤية عميقة تتحدى الفكرة القائمة في حينها. كان هذا الكتاب هو أول مؤلف “عصري” يطرح فكرة أن الخلافة لا علاقة لها بالإسلام، وأن الحكم هو شأن “زمني مدني” لا يفرضه الدين بأي شكل من الأشكال.

وتتجلى رؤيته المحورية في نهاية الكتاب، والتي لخص فيها فكرته: “والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعامل بها المسلمون … والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لترجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة”.

عاصفة سياسية ودينية

فور صدور الكتاب، انفجرت الحياة السياسية والدينية في مصر. شنت حملة واسعة وشرسة على الشيخ علي عبد الرازق، لم تقتصر على الهجوم الفكري، بل امتدت لتشمل الاتهامات الشخصية. قاد هذه الحملة كل من المؤسسة الأزهرية الرسمية والتيارات الدينية التقليدية، بالإضافة إلى الملك فؤاد.

لم يكن الرفض فكريا بحتا، بل كان تحالفا بين السلطتين الدينية والسياسية. فقد كان الملك فؤاد يطمح إلى وراثة الخلافة بعد سقوطها، وهو ما كانت بريطانيا تسعى إليه كذلك، حيث كانت تبحث عن خليفة بديل عن السلطان العثماني، وكانت مصر من بين الأسماء المطروحة. وقد جاء كتاب عبد الرازق ليمثل ضربة قاصمة لفكرة الخلافة، حيث أثبت أنها ليست ركنا من أركان الدين. وفي المقابل، أرادت المؤسسة الأزهرية أن “تتزلف” للملك وتتقرب منه، ما دفعها إلى مهاجمة عبد الرازق.

أما على الصعيد الديني، فقد اتُهم الشيخ بالكفر والضلال والفسق، ووصِف بأنه عميل للغرب والصليبية، وأن أفكاره ليست سوى نسخ من أفكار المستشرقين المعادين للإسلام. وفي النهاية، أصدرت هيئة كبار العلماء قرارها الحاسم بفصله من “العالمية” وسحب شهادته من الأزهر، كعقاب نهائي على فكره. وكان هذا الهجوم في جوهره حربا على فكرة الدولة الوطنية التي كانت رائجة في مصر وقتها، وكان كتاب عبد الرازق يجسد هذه الفكرة بشكل عميق ويؤكد أن الحكم شأن دنيوي، وليس دينيا.

جذور الإسلام السياسي

كان للتنكيل بالشيخ علي عبد الرازق تداعيات أعمق من مجرد عقاب فردي، إذ إن تلك المعركة أيقظت لدى التيارات المناهضة لفكرة الدولة المدنية ضرورة وجود تنظيمات قوية تستطيع الترويج لمشروع الخلافة الإسلامية. هذا المشهد يمثل نقطة تحول، انتقل الصراع الفكري فيها من مجرد نقاشات ومؤلفات إلى صراع تنظيمي، ما مهد الطريق لنشأة ما يعرف اليوم بتيار الإسلام السياسي.

بعد عام واحد فقط من المحاكمة، تأسست جمعية “أنصار السنة المحمدية” في عام 1926، ممثلة للتيار الوهابي في مصر. وفي عام 1928، ظهرت جماعة “الإخوان المسلمين” بقيادة حسن البنا. وكان الشعار المشترك للتنظيمين هو “الإسلام دين ودولة” واستعادة الخلافة، وهو ما يعتبر ردا مباشرا على أطروحات علي عبد الرازق.

هذا التوافق الفكري بين المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر) وتيارات الإسلام السياسي الوليدة (الإخوان والسلفيين) يؤكد أنها كانت جميعا في “خندق واحد” ضد فكرة الدولة المدنية، إذ تبنت جميعها الفكرة القائلة بأن “الإسلام دين ودولة”.

المشهد بعد قرن: استمرارية الفكرة والحرب

لم تنتهِ معركة “الإسلام وأصول الحكم” بوفاة علي عبد الرازق، بل هي “معركة كل يوم من مئة عام حتى الآن”. وكل من هاجم هذا الكتاب وروج لفكرة “الإسلام دين ودولة” و”الحاكمية لله” له يد “في كل الإرهاب الذي نعيشه حتى الآن”.

وفي مفارقة تاريخية غريبة، نجد أن المؤسسة التي ناصبت علي عبد الرازق العداء وأدانت فكره، عادت وأقرت ما نادى به. ففي عام 1947، اجتمعت هيئة كبار العلماء وقررت إعادة “العالمية” إليه، وأصبح هو نفسه وزيرا للأوقاف لاحقا. والأكثر دلالة، أن شيخ الأزهر الحالي يقول إن “الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام ولا أصلا من أصول الإسلام”، وهو نفس الكلام الذي قاله علي عبد الرازق قبل قرن من الزمان، والذي بسبب قوله فُصل وكُفّر.

إن مرور قرن كامل لكي تعترف المؤسسة الدينية الرسمية ببعض الأفكار التي كانت سببا في محاكمة أحد أبنائها، يدل على المقاومة الهائلة للتجديد وبطء التطور الفكري داخل هذه المؤسسات. وفي المقابل، فإن هذا يمثل انتصارا مؤجلا لفكر علي عبد الرازق، ما يؤكد أن الأفكار الجوهرية لا تموت، حتى وإن تم قمعها لفترة من الزمن.

في المحصلة، يظل الصراع الذي بدأ في عام 1925 ليس مجرد حدث تاريخي عابر، بل هو صراع فكري مستمر ومحدد للمعالم حول طبيعة الدولة والمجتمع. إنه صراع حول الاختيار بين “الوطن” و”الخلافة”، بين الدولة المدنية التي تستند إلى العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة، وبين نموذج “الحاكمية لله” الذي تمثله جماعات تقود المجتمع إلى الاستبداد والإرهاب.

إبراهيم عيسى

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading