في الليلة التي سبقت الرحلة، وصلتني رسالة مقتضبة من منظّمي الجولة: “هناك إجراءات أمنية وبعض التصاريح لم تُستكمل بعد، قد نضطر إلى الانتظار بجانب بوابة القاعدة وقد يُستثنى البعض”.
كان ذلك تذكيرا بصرامة دخول واحدة من أكثر القواعد العسكرية تحصينا في الولايات المتحدة، قاعدة مشاة البحرية الأميركية في كوانتيكو بولاية فرجينيا.
إليكم الرحلة كما عشتها:

تم تحديد المجموعة، وانطلقنا
كنّا نحو عشرين صحفيا من مختلف دول العالم.
مع الفجر بدأت الرحلة من أمام نادي الصحافة الوطني في واشنطن، المبنى العريق الذي طالما كان شاهدا على لحظات مفصلية في التاريخ الأميركي.
انطلقت الحافلة، وبدأت الأحاديث الجانبية تدور حول اليوم الطويل الذي ينتظرنا. كان التاريخ 11 سبتمبر، الذكرى الرابعة والعشرون للهجمات، وها نحن نمر بمحاذاة البنتاغون نفسه، أحد المواقع التي استُهدفت في ذلك اليوم.
احتجنا قرابة ساعة للوصول، وكلما اقتربنا من القاعدة كان المشهد يتبدّل: الزحام يخف، واللافتات المدنية تختفي لتحل محلها لوحات عسكرية تحذيرية.


عند بوابة القاعدة، استوقفنا جنديان من مشاة البحرية، تحققا ممن في الحافلة، وأعادا التذكير بأن الدخول إلى كوانتيكو هو دخول إلى مساحة يحكمها الانضباط العسكري فقط.
متجر عسكري
على عكس ما كنت أتوقع، أول محطة لنا بعد الإجراءات الأمنية لم تكن ساحة تدريب، بل متجر يحمل اسم “مارين مارت”؛ جزء من سلسلة متاجر تابعة لمشاة البحرية يوفر احتياجات الجنود اليومية. هناك، سألونا إن كنا نرغب بشراء شيء قبل الانطلاق إلى ميادين التدريب.

اشتريت قنينة ماء استعدادا ليوم أدركت أنه سيكون طويلا. بعدها انتقلنا إلى قاعة كانت في الأصل بارا يرتاده الجنود. لكنه اليوم لم يعد مكانا للشرب، فالكحول محظورة تماما خلال فترة التدريب، والقاعة تحوّلت إلى فضاء للفعاليات والجلسات التعريفية.
هناك وقف الملازم برايان هايرز، مدرّب الفنون القتالية، وإلى جانبه مات هوكينز، مدير دورة ضباط المشاة.
قال هايرز: “هنا تصنع الولايات المتحدة قادتها العسكريين”
وقبل أن ندخل في تفاصيل اليوم، لا بد من التوقف عند تاريخ المكان.
قاعدة كوانتيكو
تأسست قاعدة كوانتيكو عام 1917 مع دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، وكانت حينها مجرد ثكنة صغيرة عُرفت باسم ثكنة مشاة البحرية في كوانتيكو (Marine Barracks Quantico). ومع الوقت، توسعت لتصبح مركزا رئيسيا يضم مؤسسات عسكرية وأمنية بارزة مثل مدرسة تدريب الضباط، ومدرسة المرشحين (OCS)، إلى جانب أكاديمية مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI Academy) ومركز تدريب الخدمة السرية.

حيث يبدأ كل ضابط مشاة..
تُعرف المدرسة التي نزورها اختصارا بـ TBS، وهي المحطة الأولى لكل ضابط في مشاة البحرية (المارينز). يخضع فيها سنويا نحو 2,100 ضابط جديد لدورة تستمر قرابة 29 أسبوعا (ستة أشهر تقريبا).
يبدأ التدريب من المهارات الفردية ثم يتدرج إلى تكتيكات فرق النار (Fire Team Tactics)، لينتهي بعمليات هجومية ودفاعية تحاكي القتال في المدن.

أغلب المجندين تتراوح أعمارهم بين 22 و30 عاما، وكثير منهم تخرجوا من الجامعات حديثا. أما الحد الأقصى للالتحاق فهو 38 عاما، مع حاجة من تجاوزوا 34 عاما إلى استثناء خاص يخضعون فيه لتقييم طبي وبدني صارم.
الأسئلة..
ما الذي يميزكم عن بقية القوات في الجيش الأميركي؟
يجيب هوكينز: “استراتيجيتنا تدعم الفشل، الهدف هنا ليس إنتاج خبراء تقنيين بقدر ما هو إعداد قادة قادرين على التكيّف” وقال: ” فلسفتنا أن الضابط الذي لم يختبر حدود عجزه، لن يعرف كيف يقود الآخرين حين يختبرون الفشل”.

وحين انتقل النقاش إلى منظومة القيم، اتضح أن الأمر لا يقتصر على التدريب البدني أو التكتيكي. فكل ملازم يُطلَب منه منذ البداية أن يحدد قيَمه الشخصية، ثم يربطها كما يقول هوكينز بالثلاثية التي يقوم عليها سلاح المارينز: الشرف، الشجاعة، الالتزام.
بدا أن الإجابة لم تُرضِ بعض الصحفيين. فاستدرك هوكينز: “الشخصية هنا لا تُبنى بالمواعظ. بل بالعادات اليومية المتراكمة. نحن لا نقيس المتدرّب بمهارته التكتيكية فقط، بل بقدرته على اتخاذ قرار أخلاقي وهو تحت الضغط”.
انتهت الجلسة.
في الخارج كان بانتظارنا تسجيل كلمة صحفية. بعض الزملاء الأجانب حملوا في نبراتهم شيئا من الامتعاض، انعكاسا لصورة جيش لا تفارق تقارير بلدانهم. وما لفت الانتباه أن كلما حاول أحد الصحفيين طرح سؤال عن المنظومة الأخلاقية، بادر ضابط آخر إلى إعادة توجيه النقاش نحو تفاصيل إجرائية، كأنما ثمة حذر من الخوض العميق في تلك المساحة.
“الوقت يداهمنا”، نادت إحدى الضابطات، إيذانا بالانتقال إلى وجهتنا التالية.

إلى “ساحة الحرب”..
ركبنا الحافلة من جديد. هذه المرة وُزِّعت علينا أوراق للتوقيع عليها؛ أشبه بإخلاء مسؤولية. فالوجهة ميدان يحاكي معركة حقيقية.
استغرقت الرحلة نحو خمس عشرة دقيقة، كانت كافية لتكشف ضخامة القاعدة الممتدة على مساحة 220 كيلومترا مربعا. وعلى طول الطريق تظهر معالم التدريب بوضوح، كتل خرسانية وأبراج مراقبة وحواجز خشبية.

وفجأة ظهرت أمامنا قرية صغيرة بلافتات فارسية: بانك، بوليس.. وعشرات الجنود يتوزّعون في الأزقة.
نزلنا من الحافلة، وسرعان ما تبدّد هدوؤها في معركة صاخبة: أزيز رصاص ودخانا أبيض يتصاعد، وضباط يقتحمون الأبواب. وفوق رؤوسنا ارتفعت طائرتان مسيّرتان.
أشار إليهما الكابتن أوليفر ماكيلِبس، أحد الضباط المشرفين على التدريب قائلا: “اليوم سترون نوعين من الطائرات المسيّرة: الأولى للاستطلاع والمراقبة، والثانية لمحاكاة هجوم مباشر”.
الأولى كانت رباعية المراوح، تحوم بهدوء فوق أسطح المباني بحثا عن هدف. أما الثانية فمغلفة بهيكل مطاطي يسمح لها بالارتطام بالجدران دون أن تسقط، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها هذا النوع، المعروف باسم المسيّرات المضادة للاصطدام (Collision-Tolerant Drone).
هذا الطراز لا يُستخدم في القتال فقط، بل أيضا في التفتيش داخل الأنفاق والمباني المهدمة، أو حتى في مهام البحث والإنقاذ.

أما بالنسبة للضباط، فهم يقضون ستة أشهر كاملة في سيناريو قتالي متواصل، ينامون في العراء تحت المطر، يتناوبون الحراسة والنوم المتقطع، ويتدرّبون على الصمود حين يصبح الإرهاق جزءا من ساحة الحرب.
مرة أخرى.. إلى الحافلة

المتحف..
الساعة الثانية ظهراً تحرّكت الحافلة باتجاه الوجهة الأخيرة في رحلتنا: المتحف الوطني لمشاة البحرية الأميركية.
لم تمضِ دقائق حتى ظهر المبنى المهيب بساريته المعدنية المائلة، مشهد يذكّر بصورة رفع العلم في إيو جيما، وهي معركةٌ وقعت بين 19 فبراير إلى 26 مارس 1945 عندما نزلت قوات مشاة البحرية الأميركية على جزيرة إيو جيما اليابانية وانتزعتها من الجيش الإمبراطوري الياباني خلال الحرب العالمية الثانية.
ما إن دخلنا بهو قاعة ليذرنك حتى أحاط بنا مشهد بانورامي لطائرات حقيقية معلّقة في السقف، بينها قاذفة SBD Dauntless من الحرب العالمية الثانية، ومروحية UH-34D Seahorse وسط أدغال فيتنام .

تقدّمنا عبر ممر معروف بـ “ممشى الإرث”، حيث تستذكر المعارك التي خاضها المارينز بترتيب زمني. من بيلو وود في الحرب العالمية الأولى، إلى إيو جيما وتاراوا في الحرب العالمية الثانية، ثم مشاهد من خزان تشوسن في الحرب الكورية، وصولا إلى عاصفة الصحراء في الكويت.
بغداد وصدام حسين
عند الركن الذي يحمل اسم بغداد، بدت الجدران كما لو أنها استُنسخت من شوارع العاصمة العراقية في مطلع الألفية: صور كبيرة لصدام حسين وشعارات سياسية لحزب البعث وألوان العلم العراقي في عهد صدام.

ومن بغداد امتد الطريق إلى المدينة التي ارتبط اسمها بأشرس المعارك التي خاضها المارينز في العراق: الفلوجة. عند المدخل، لافتة تحذيرية واضحة: “قد تواجه أصواتا وروائح قوية، ومشاهد تحاكي بيئة القتال.” بدا وكأن المتحف يطلب منّا الاستعداد لخطوة مختلفة:

معركة الفلوجة .. تجربة حسية كاملة
الرائحة هنا تجربة مختلفة، خليط من البلاستيك المحترق والبارود والمخلفات البشرية في شارع ضيق يحاكي شوارع الفلوجة.
واللافت أن أكثر هذه الروائح تُبث عبر منافذ معينة تبث الروائح بهدف إعادة تجسيد أجواء المدينة خلال المعارك. يقول مدير المتحف كايل جِنتري: “بعض قدامى المارينز أخبرونا أن هذه الرائحة كانت كفيلة بإعادتهم إلى لحظة خدمتهم في العراق”.
الساعة تقترب من الثالثة، أُعلن موعد العودة. صعدنا الحافلة، ومعها انتهت الرحلة.

عزت وجدي
عزت وجدي صحفي ومنتج أفلام وثائقية يمني يقيم في العاصمة الأميركية واشنطن، يحمل درجة الماجستير في الدراسات الإعلامية


