في لبنان، لم يعد السلاح قضية أمن فقط، بل صار قضية هوية. حزب الله، كما تصفه النائبة في البرلمان اللبناني بولا يعقوبيان، لم يعد حزبا سياسيا عاديا. هو يطلب الولاء المذهبي، يضع نفسه في موقع “المقدس”، ويترك الطائفة التي يدّعي حمايتها الأكثر تضررا من سياساته.
النتيجة، كما تقول، أن السلاح لم يحمِ ولم يردع. ما يحمي لبنان حقا هو الدولة، لا الميليشيا.
لكن خطورة كلامها ليست في النقد المباشر لحزب الله فحسب، بل في تفكيك المعادلة التي بُني عليها النظام اللبناني نفسه: كل زعيم يختبئ وراء طائفته، يقنعها بأنها مستهدفة، ثم يبيعها أوهام الحماية. هنا تصوّب يعقوبيان على “المحرّم السياسي”، فتسمي الأشياء بأسمائها وتفضح لعبة تحويل الطائفة إلى غطاء للفساد وللاستقواء بالسلاح.
هذا الحوار يذهب إلى قلب المعضلة: كيف تحولت الطائفة إلى درع لزعيم، وكيف صار السلاح عبئا على من يحمله، ولماذا المواطنة وحدها قادرة على إنقاذ بلد يقف على حافة الانهيار.
الحوار التالي مع يعقوبيان أجراه الزميل جو خولي:
– في بلد يمكن للكلمات فيه أن تشعل أكثر من جدل، قيلت أربع كلمات: “العقيدة أخطر من السلاح”. النتيجة كانت عاصفة فورية. لكن، هل كانت العاصفة على ما قيل، أم على ما هدد الكلام بكشفه؟ دعينا نعرف. أولا، شكرا لوجودك معنا في هذه الحلقة الخاصة.
– يسعدني أن أكون معك في هذه المقابلة. أربع كلمات فتحت حربا عليّ.
– هذه ليست المرة الأولى التي تُشن فيها حملة ضدك. لماذا دائماً هناك حرب تُفتح عليك؟
– لأنني أعتبر نفسي معارضة حقيقية، لا معارضة جزئية ولا انتقائية. لست مع طرف ضد طرف آخر، ولا مع محور ضد محور. لبنان لم يصل إلى هذا الوضع بسبب وجود طرف شرير وآخر خير، بل لأن الجميع تواطأوا، قوى الثامن والرابع عشر من آذار معا. تقاسموا مؤسسات الدولة وإداراتها، تشاجروا فوق الطاولة وتقاسموا الصفقات تحتها. وعندما رفعت المعارضة الحقيقية شعار “كلن يعني كلن”، وجدناهم موحدين في الهجوم علينا، أكثر بكثير من خشيتهم من أي أمر آخر. خوفهم الحقيقي هو أن يعي اللبنانيون أن كل بيت وكل شارع ما زال مرتهنا لزعيم أو حزب. هذا الخوف يتجلى أكثر فأكثر. نحن ضد النظام الطائفي المذهبي الذي أوصل لبنان إلى مرحلة لم يعد فيها من مقومات الدولة شيء. لذلك نحن تحت المجهر، والقصف علينا مستمر.
– ما قصدك بقولك “العقيدة أخطر من السلاح”؟ هل فُهم الكلام على أنه اعتداء على الشيعة في لبنان؟ باعتبار أن حزب الله يُقدَّم في الداخل والخارج ممثلا للشيعة؟ هل كنتِ تريدين كسر هذه الفكرة؟
– هذا الكلام قلته أكثر من عشر مرات منذ التسعينيات. ليس جديدا. لكنهم قرروا هذه المرة شنّ حملة تجييش. فبركوا تصريحا زائفا بأنني قلت “العقيدة الشيعية”. بينما ما قلته بالحرف هو “العقيدة وراء السلاح أخطر من السلاح”. والمقصود هنا الأيديولوجيا التي تشرعن السلاح. هذا الكلام موجود منذ أربعين سنة في كتبي ومقالاتي. لكنهم اختاروا تحريفه لإثارة حملة.
– إذن لم تذكري حزب الله.
لم أذكر الشيعة، بل ذكرت “أيديولوجيا السلاح”. الأمر واضح. عندما ينتقد أحدهم حزب الإخوان المسلمين، فهل يقصد السنة؟ وعندما ينتقد حزبا يمينيا مسيحيا، فهل يقصد كل المسيحيين؟ أو إذا انتقد حزبا أرمنيا فاسدا، فهل يقصد الأرمن جميعا؟ كل حزب في لبنان يحاول أن يُماهي نفسه بطائفته، ليقنع جمهوره أنه يحميهم وأنهم مستهدفون، سواء كانوا شيعة أو سنة أو أرمن أو مسيحيين. وهذا غير صحيح. المستهدف الحقيقي هو الزعيم الفاسد الذي يبيع شعارات كاذبة لشعبه ويصور نفسه طاهرا ونزيها. المشكلة تكمن هنا.
– الرد الفوري والعنيف على تصريحك، هل يدل على طبيعة الخطاب السياسي أم على الوضع السياسي في لبنان؟
أولا يدل على إفلاس كبير، وعلى الحاجة لشد العصب وتجييش الجماهير. أرادوا أن يقنعوا بيئتهم الحاضنة أنها مستهدفة، بينما المستهدف الحقيقي هو حزب الله بسياساته. هذه السياسات دمّرت بيوت تلك البيئة نفسها، ودمّرت بيوت الشيعة قبل غيرهم، ودمّرت بيوت اللبنانيين جميعا. الطائفة الشيعية دفعت ثمناً أكبر من سواها في الحرب الأخيرة.
– هل اختزل حزب الله الطائفة الشيعية في لبنان؟
كل الأحزاب تحاول أن تختزل نفسها بطوائفها. تقول “أنا الطائفة والطائفة أنا”. لكن حزب الله ليس مجرد حزب سياسي، بل يشترط للانتماء إليه أن يكون العضو شيعيا اثني عشريا مؤمنا بولاية الفقيه. هذا ليس حزبا سياسيا لبنانيا عاديا. عندما ننتقده يقولون إننا نمسّ بالعقيدة والدين. هذا غير صحيح. نحن لا نتحدث عن الدين، نحن نتحدث عن حزب سياسي يورط لبنان في مغامرات. من حقنا أن نقول إن هذه العقيدة السياسية والفكرية لا تناسب وطنا يريد بناء مؤسسات ودولة ومواطنة. تقسيم الناس على أساس مذهبي يدمّر المواطنة. وهذا الأمر ليس حكرا على حزب الله فقط، لكنه الأكثر خطورة لأنه مسلّح ولأنه يعطي نفسه بعدا إلهيا في التسمية والممارسة.
– أنصار حزب الله اليوم، لماذا ما زالوا متمسكين به رغم أن إيران أضعف وسوريا أضعف والحزب نفسه أضعف بعد الحرب الأخيرة؟ على ماذا يراهنون؟
– الواضح أن إيران لا تريد التخلي عن ورقة السلاح في لبنان. هي التي موّلت وأرسلت هذا السلاح منذ البداية، وربّت أجيالا على فكر محدد. السلاح جزء من منظومة كاملة. لبنان الرسمي اليوم يطالب بتسليم السلاح. لكن إيران تعتبره ورقة تفاوض ولن تتخلى عنها إلا بثمن، ربما يتعلق بالنظام أو بالبرنامج النووي. هم يعرفون أن الأمور وصلت إلى خواتيمها، لكنهم يريدون أن يقايضوا السلاح بمكاسب استراتيجية. نحن نقول: ليكن ثمن السلاح مصلحة لبنان واللبنانيين، وليس مصالح إيران.
أنصار حزب الله لبنانيون مثلنا وينتمون إلى هذا البلد. نقول لهم إن السلاح لم يحمِ ولم يردع. الذي يحمي هو منطق الدولة والمؤسسات. تسليم السلاح إلى الجيش هو الذي يوفر الحماية. السلاح إذا وُضع بيد الجيش يصبح موضع إجماع وطني.
– لكن هل الجيش قادر فعلا على حماية لبنان إذا تسلّم السلاح؟
– الجيش الوطني بالتأكيد أقدر من أي فصيل مسلح. هو المؤسسة التي تحظى بإجماع اللبنانيين. الجيش يستطيع الدفاع عن الحدود والأمن أكثر من أي طرف يورط لبنان بمشاكل مع الداخل والخارج. الخطر أن يُدفع الجيش إلى مواجهة مع بيئة الحزب، وهذا أمر خطير وغير مقبول. لذلك علينا أن نخرج من منطق الميليشيا إلى منطق الدولة.
– هناك أحزاب في لبنان تحولت من ميليشيات إلى العمل السياسي. كم سيستغرق الأمر مع حزب الله؟
– كلما كان الأمر أسرع، كلما جنّب لبنان مخاطر وأزمات أكبر.
– الأزمات من الداخل أم من الخارج؟
من الاثنين معا. على سبيل المثال: إعادة الإعمار. هل يمكن إعادة إعمار الجنوب والضاحية والاقتصاد اللبناني كله من دون دعم خارجي؟ المجتمع الدولي يرفض المساعدة طالما هناك سلاح خارج الدولة، وطالما لا توجد إصلاحات. في السابق كان العالم يتساهل ويغضّ النظر عن السلاح، اليوم السلاح والإصلاح شرطان أساسيان.
– من هي “الدولة العميقة” في لبنان برأيك؟
الأحزاب المسيطرة داخل المؤسسات والإدارات. معظم المراكز الحساسة يشغلها أشخاص تابعون لأحزاب وزعماء. لا وجود لانتماء وطني جامع.
– ما الذي يميز الحكومة الجديدة مع رئيس الجمهورية الحالي؟
الفرق الأساسي أن هناك اليوم متغيرات إقليمية ودولية كبرى انعكست على لبنان. ولأول مرة هناك رئيس حكومة إصلاحي حقيقي مثل نواف سلام، وفريق إصلاحي غير متورط في ارتكابات الماضي. هذا لم يكن موجودا في زمن الوصاية السورية ولا بعدها. وهذا ما يفسر مقاومة اللوبيات والكارتيلات والمافيا التي تحاول التخلص من سلام سريعا.
– من اللوبي الأقوى اليوم ضد الحكومة والرئاسة؟
لوبي المصارف بلا منازع، لأنه يموّل الإعلام المعادي للحكومة والفريق الإصلاحي. يضاف إليه كارتيل السلاح، وإن كان أضعف اليوم. لكن لوبي المال أقوى لأنه يتحكم بالإعلام وبمفاصل السلطة.
– الإصلاحات المطلوبة اليوم، إلى أي مدى مرتبطة بالمساعدات الخارجية؟
– كل الإصلاحات تقريباً مشروطة بالمساعدات. في الماضي، في مؤتمرات باريس وغيرها، كانت الشروط واضحة لكن لم تُنفذ. الخارج أدرك أن الطبقة السياسية تخدعه. أما اليوم فهناك فريق إصلاحي داخلي يضغط بالتوازي مع الخارج لفرض الإصلاحات.
– هل تغيّرت سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان؟
هناك إشكالية. أحياناً تركّز واشنطن على السلاح وتغفل الإصلاحات. وهذا خطأ. لأن غياب الإصلاحات يعزز قوة السلاح والاقتصاد الموازي. يجب أن يسيرا معا: الإصلاح وحصرية السلاح.
– ماذا لو فشلت الحكومة والرئاسة في خطة نزع سلاح حزب الله؟
إذا نجحوا فذلك لأن لبنان قدّم كل ما هو مطلوب. لكن هذا سلاح إيراني على أرض لبنانية، وإسرائيل ترفض أي تسوية. نتنياهو يريد إبقاء جبهة لبنان مشتعلة ليطيل بقاءه السياسي. لذلك على العالم أن يضغط على إيران وإسرائيل معا لتمكين لبنان من حصرية السلاح بيد الدولة. الخطة واضحة ولها مهلة زمنية ثلاثة أشهر.
– سؤال أخير: بالنسبة لما يُطرح عن منطقة اقتصادية دعا إليها ترامب، هناك من يرى أنها لتشريع الوجود الإسرائيلي. ما رأيك؟
– هذا شأن لبناني بحت. ليس من حق أي طرف خارجي أن يقرر مشاريع للبنان. المطلوب أولا انسحاب إسرائيلي ووقف الاعتداءات، عندها فقط تستطيع الحكومة متابعة مشاريعها.
– شكراً لك.
– وأنا أشكرك. الوقت مرّ سريعاً.