معضلة السنة! 

في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يتوقف الكاتب والصحفي إبراهيم عيسى عند مفهوم “أهل السنة والجماعة”، متسائلا عن موقع القرآن داخل البنية الدينية السائدة، ولماذا جرى تقديم السنّة على الوحي القرآني عبر تاريخ طويل من التنظير الفقهي. 

 يلفت عيسى إلى أن مصطلح “أهل السنة والجماعة” نفسه همّش ذكر القرآن، وأن رفع مكانة السنّة – خاصة أحاديث الآحاد – خدمَ توجّهات سياسية أكثر مما خدم الدين، إذ بُنيت منظومة تشريعية كاملة على روايات ظنية جُمعت بعد قرنين من وفاة النبي. 

ويناقش الكاتب الفارق الزمني بين جمع القرآن المبكر وتدوين الحديث المتأخر، ويرى أن الاعتماد على رواية الفرد الواحد أوجد مأزقا أخلاقيا وعقائديا ما زال يؤثّر في التفكير الديني إلى اليوم. 

النص التالي هو أهم ما جاء في حلقته، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة: 

مفهوم أهل السنة والجماعة من المفاهيم التي نقضي وقتا طويلا في التفكير فيها وتأملها، ودائما يطرح سؤال ملحّ نفسه: أين موقع القرآن في هذا المفهوم؟ لماذا جرى استبعاد القرآن عملياً من إطار “أهل السنة والجماعة”؟ هذا سؤال يجب التوقف عنده. 

نعلم أن أصل التسمية يعود إلى الجماعة التي انتصرت لفكرة أن القرآن غير مخلوق، في مواجهة المعتزلة والأشاعرة. هذا هو الجذر التاريخي للمصطلح. لكن يبقى السؤال: لماذا اختير اسم “أهل السنة والجماعة” تحديداً؟ لماذا لم يكن “أهل القرآن والسنة والجماعة” مثلاً؟ لماذا غاب ذكر القرآن؟ 

قد يُفسَّر هذا التجاهل الكبير باحتمالين:

الأول: أن القرآن مُسلَّم به عند الجميع، وأن الإيمان به محسوم ولا يحتاج لإبرازه في التسمية، فمَن لا يؤمن بالقرآن يجد نفسه خارج المشهد الديني من الأصل، وبالتالي ليس هناك حاجة لذكره. 

أما الاحتمال الثاني – وهو الأهم برأيي – فهو أن التسمية كانت تأكيدا على تمييز السنة وإبرازها وحدها في مقابل القرآن. فالقرآن يجتمع عليه المسلمون جميعاً، أما السنة فهي محل نزاع واسع، ولذلك قالوا: نحن أهل السنة والجماعة، أي نحن أصحاب المرجعية المميزة في هذا المجال. 

لكن هذا التفرد محل نظر كذلك، لأن من يسمون أنفسهم “أهل السنة والجماعة” لا يحتكرون السنة وحدهم. فهناك أيضاً سنة لدى الشيعة، منظومة كاملة، لها كتبها ورواتها وقواعدها، أي أن السنة ليست ملكاً حصرياً لطرف واحد. 

والخلاصة أن مكانة السنة قد رُفعت بشكل كبير في بنية الدين، وتم استخدام هذا الرفع لإضفاء ثقل سياسي وبشري داخل المنظومة الدينية. لا أقول إن هذا الثقل ينافس القرآن فقط، بل أرى أنه في كثير من الأحيان يتحايل على القرآن. وهذا ما أظن أن التاريخ يكشفه يوما بعد يوم، والواقع يثبته بطريقة أوضح. 

السنة تنافس الوحي! 

الخطر الحقيقي يكمن في الفارق الزمني بين تدوين السنة وبين تدوين القرآن. فنحن نتحدث عن السنة النبوية التي لم يبدأ تدوينها إلا في القرن الثاني الهجري. أي أننا أمام عصر متأخر جداً عن زمن جمع الأحاديث الأولي. فبداية التدوين جاءت بعد أكثر من مئة عام، بل قاربت مئتي عام. وعندما ظهرت كتب الصحاح نفسها كنا قد دخلنا القرن الثالث ثم الرابع. هذا يعني أن الاعتماد على الرواية الشفوية استمر قرابة قرنين كاملين، وهو أمر يدعو للقلق منذ البداية. 

قد يقول قائل: ولماذا لا يكون الأمر نفسه مع القرآن؟ والجواب القاطع: لا، القرآن ليس كذلك إطلاقاً. فالقرآن جُمع في الأيام الأولى من الإسلام. وما إن توفي الرسول، وانقطع الوحي، واكتمل القرآن، حتى جُمع المصحف في عهد أبي بكر، ثم وُحّد في عهد عثمان بن عفان. وهذه حقيقة أساسية لا نزاع حولها. 

ثم إن القرآن كان محفوظاً في صدور الناس، حتى لو كان عدد الحفظة الدقيق محدوداً. فالقرآن كان حاضراً عند الجميع؛ سمعه المسلمون في صلوات النبي وخطبه ومواعظه ومجالسه وغزواته. كان نصاً متداولاً ومسموعاً ومحفوظاً بشكل جماعي وقطعي. 

أما عند الأحاديث فنحن أمام وضع مختلف وغريب. فقد قسّم العلماء الأحاديث – وفقاً لعلمهم هم – إلى متواتر وآحاد. المتواتر ما رواه أكثر من أربعة أشخاص عبر طبقات زمنية مختلفة بطريقة تمنح قدراً من الثقة. ومع ذلك فالثقة هنا ليست مطلقة. وفي المقابل يأتي حديث الآحاد، وهو ما يرويه واحد إلى ثلاثة فقط. وهنا يبدأ المأزق الفكري والأخلاقي. 

كيف يمكن تصور أن النبي يخص شخصاً واحداً أو اثنين بحديث أو حكم أو قرار ولا يبلّغه لعامة المسلمين؟ هذا أمر مدهش! فإذا كانت المدينة تضم آلاف الصحابة، فلماذا يتلقى شخص واحد فقط ذلك الحديث؟ هذا غريب جداً.  والأغرب أن هذا الشخص الذي قيل إنه سمع الكلام من النبي لم ينقله للناس كافة، بل ربما رواه لصاحبه فقط! هل يُعقل أن يحتفظ صحابي بقول منسوب للرسول ولا ينشره على الفور؟ هذا غير منطقي. 

ثم نجد سلسلة رواة: واحد قال لواحد قال لواحد… أو اثنان لاثنين. أي أن المسألة مبنية على روايات انحصرت في أفراد معدودين، كأن النبي كان ينفرد بهم، مع أنه كان يجلس في المسجد بين الناس. 

وعندما نعود للأحاديث المتواترة ونبحث في عددها الحقيقي نجد أمراً لافتاً: من بالغ قال إنها تبلغ ثلاثمئة حديث، ومن قلّل قال إنها لا تتجاوز ثلاثين. وهذا وحده يكشف مدى الفراغ والاختلاف حتى في أكثر الروايات وثوقاً. 

ورغم ذلك، تعامل العلماء مع آلاف الأحاديث في كتب الصحاح وكأنها كلها قابلة للاحتكام، بل جعلوا أحاديث الآحاد نفسها مصدراً للتشريع وإصدار الأحكام، وهذا أمر بالغ الخطورة. 

 التحايل السياسي على القرآن 

القفزة الكبرى في ترسيخ هذا الخطر جاءت على يد الإمام الشافعي، الذي اعتبر السنة مصدرا ثانيا للتشريع. لكن لماذا يا إمام؟ من أين جاءت هذه الفكرة؟ هنا تكمن خطورة تنظير الشافعي؛ فهو أول من وضع هذا الإطار النظري، وأدرج السنة ضمن مصادر التشريع بعد القرآن مباشرة. والسؤال: بأي أساس صُنّفت السنة في هذا الموضع؟ 

السنة – في جوهرها – جهاز صُنع بالكامل في العقول البشرية. فهي تقوم على روايات نُسبت للنبي. وعندما نميّز بين المتواتر والآحاد، ندرك أننا لسنا بحاجة إلى كل هذا الجهد لو كان المتواتر هو الأساس، لكن المشكلة أن البناء كله قائم على أحاديث آحاد. لقد منحوا الحديث دوراً وأهمية تفوق كثيراً كونه خبراً لا نملك دليلاً قاطعاً على صدوره عن الرسول. ولا يهمّ إن كان الراوي ثقة أو محل اتفاق؛ الذي يعنينا هو القرآن، وأن تُعرض السنة عليه. 

هناك من يكرر أن الأحاديث تفسر القرآن، وهذا غير دقيق. فلو نظرنا في كتب الحديث، لوجدنا أن الأحاديث التي تتناول تفسير الآيات قليلة جداً ومحدودة. لذا فادعاء أن السنة كلها تفسير للقرآن كلام غير صحيح. ولو كانت السنة مفسرة للقرآن، فما الحاجة إلى كل تلك التفاسير في تراثنا؟ 

نزل القرآن ليُخاطب المسلم مباشرة، فيتلقاه ويفسره دون وسطاء. لكنهم وضعوا أنفسهم وسطاء في التفسير، ثم وسطاء في الحديث، وقالوا: هذه هي السنة التي سمعناها من النبي، وهذا تفسيرنا لها. ثم رفعوا السنة إلى مرتبة الحكم والتشريع وطالبوا الناس بالإذعان لذلك، ومن اعترض اتهموه وربما أخرجوه من الملّة، رغم قبول الجميع بالسنة الفعلية المشاهَدة أمام آلاف الناس، كهيئته في الصلاة وغيرها. أما الأحاديث القولية التي انتقلت من فم النبي إلى أذن راوٍ واحد ثم تحوّلت إلى أحكام ملزِمة، فهذه مسألة غريبة وهائلة. 

وهنا يظهر السؤال الأصعب: كيف تُقبل السنة حتى حين تخالف القرآن؟. وعندما يتعارض حديث منسوب إلى النبي – بصرف النظر عن تصنيفه صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً – مع كلام الله، كيف يُعقَل أن يُقَر الحديث ويُقدَّم؟ إنهم هم من صنع هذا التناقض، وهم من أرادوا تقديم الحديث على النص القرآني، وما زالوا يُلزمون الناس بذلك. 

هذا الدور الضخم الذي مُنح للسنة لم يُبتكر إلا لخدمة السلطة. يتضح هذا في الأحاديث المتعلقة بالعنف والقتال وإباحة الدماء. في تقديري المتواضع، هذه أحاديث موضوعة، حتى ما سُمي منها صحيحاً. وُضعت لخدمة الحكام الذين مارسوا العنف الدموي والجماعي ضد المسلمين، فاحتاجوا إلى أحاديث تبرر ما يفعلون. فكيف يُتصور أن يحكم خليفة يُلقب بـالسفّاح من دون قصص تُبنى عليه وتُسند إليه أنه يقتدي بالنبي، فيُختلق حديث يقول إن النبي قتل مئات ودفنهم؟ اختلاق الحديث ضرورة لحماية السلطة؛ لأن القرآن محفوظ، ولا يستطيعون المساس به. 

نداء العودة إلى القرآن 

ما حدث في الواقع أشد فظاعة ومرارة وألماً من كل ما سبق. فقد صار من يقرر أن القرآن الكريم هو مصدره الأول، وأن السنة مصدر مُساند أو مجال للاسترشاد والاستنارة فقط، أي عامل مساعد محدود، وأن الأصل هو القرآن وحده – صار هذا الشخص هدفاً لرفض شديد، ولإنكار واستنكار يصلان إلى التكفير. 

هناك جماعة تُسمّى “القرآنيين”. وأسأل نفسي: لماذا اختاروا هذا الاسم؟ من المفترض أن يكون جميع المسلمين قرآنيين! هذه الجماعة هي التي لا تجعل السنة مرجعاً للحكم. ومع كامل الاحترام لأفكارهم، فقد أصبحوا عرضة للمطاردة والاتهام والتفسيق من قِبل أهل السنة والجماعة. يا جماعة، كيف يُصبح من يرى أن القرآن هو قلب الدين ومنبع التشريع والحياة – كيف يصبح كافراً؟ هذا أمر مذهل حقاً. 

هكذا أصبح كل من يناقش موقع السنة – سواء ما يتعلق بالمتواتر والآحاد، أو أحكامها، أو رواة الحديث – يُتَّهَم في دينه. ومن يقترح مراجعة كتب الصحاح وتنقيحها يُنظر إليه وكأنه يطعن في الدين. وكأننا أصبحنا في حاجة ملحّة لتذكير بعض أهل السنة والجماعة: قرآن ربكم. قرآن ربكم. قرآن ربكم أيها الإخوة، قبل سنة نبيكم. 

إنها دعوة مخلصة نوجّهها لكل المهتمين بهذا الموضوع. نرجوكم، ونقبّل رؤوسكم، وإن شئتم أيديكم، عودوا إلى القرآن؛ فهو الأساس. 

أما السنة فهي مجال طبيعي للنقاش والحوار والاختلاف والجدل. هي ليست مجالاً للإنكار إطلاقاً، لا أحد ينكر أصل السنة فيما أظن، لكن ما يُنكَر هو الدور الضخم الذي حاول البعض منحه لها حتى كاد ينافس مكانة القرآن نفسه. وهذا هو المأزق الذي ينبغي للفكر الإسلامي المعاصر أن يتجاوزه ليجد طريقه إلى الإصلاح الحقيقي والتصالح مع العصر. 

إبراهيم عيسى

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading