سلطت منظمة العفو الدولية “Amnesty” في تقرير، الثلاثاء، الضوء على المضايقات التي يتعرض لها العاملون في المجتمع المدني المصري، من خلال قوانين صارمة، وإجراءات تنظيمية معقّدة، وتدخل أمني يخترق تفاصيل العمل اليومي، وفق المنظمة.
يتحدث التقرير، الذي حمل عنوان “اللي الأمن يقوله يتعمل”، عن طريقة استخدام قانون الجمعيات رقم 149 لسنة 2019 لتقييد حرية التنظيم في البلاد، ويربط ذلك بما تصفه المنظمة بأنه “قبضة خانقة” تمارسها السلطات على قطاع المجتمع المدني.
يتوقع كثير من المراقبين أن السلطات المصرية تمر في مرحلة مراجعة للعلاقة مع المجتمع المدني، خصوصا بعد إغلاق القضية 173 العام الماضي، التحقيق الذي استمر 13 عاما بشأن التمويل الأجنبي.
وصدرت على ذمة القضية 173 في يونيو 2014 أحكام بالسجن تتراوح بين سنة وخمس سنوات بحق 43 من موظفي منظمات غير حكومية مصرية وأجنبية، وتم إغلاق سلسلة من المنظمات غير الحكومية الدولية، بما فيها منظمة “فريدوم هاوس” والمركز الدولي للصحفيين، قبل أن يتم اغلاق القضية في مارس عام 2024.
لكن تقرير أمنستي يرى في تلك الخطوة إجراء جزئي. فرغم أن رفع قرارات حظر السفر وتجميد الأصول عن عشرات العاملين يمثل “خطوة إيجابية”، فإن السلطات “لم تكتفِ بتجاهل الدعوات لتعديل قانون الجمعيات التقييدي… بل استخدمته لفرض متطلبات تنظيمية مرهقة على الجمعيات، بينما سمحت للأجهزة الأمنية بإخضاعها لتدخلات تعسفية ومراقبة مستمرة” يقول التقرير.
وتتطابق ملاحظات تقرير منظمة العفو مع تقييمات دولية أخرى. ففي مراجعتها الأحدث للحريات في مصر لعام 2025، تُصنّف فريدوم هاوس البلاد ضمن فئة “غير حرة”، وتشير إلى أن “قانون الجمعيات المقيِّد لعام 2019 يواصل الحدّ من قدرة منظمات المجتمع المدني على العمل بحرية، وأن السلطات تستهدف وتضايق بصورة روتينية النشطاء والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان”.
وفي نوفمبر، شددت هيومن رايتس ووتش في بيان على أن الخطوات التي اتخذتها السلطات المصرية مؤخرا ـ مثل إغلاق بعض الملفات أو تخفيف القيود عن عدد محدود من النشطاء ـ لا تعكس تحولًا فعليًا في واقع الحريات. وأكدت المنظمة أن قمع المعارضين وإغلاق المجال العام ما يزالان مستمرين، وأن القيود القانونية والأمنية المفروضة على المجتمع المدني ما زالت تحدّ بوضوح من قدرة المنظمات المستقلة على العمل.
يستند تقرير أمنستي على مقابلات مع 19 شخصا يمثلون 12 جمعية مستقلة تنشط في التنمية والإعلام والحقوق في القاهرة الكبرى. ويقدّم أيضا روايات عن تدخلات مباشرة من “قطاع الأمن الوطني”، تشمل “مكالمات هاتفية تهديدية، واستدعاءات غير قانونية، واستجوابات تُجرى تحت الإكراه”، إضافة إلى صعوبات في استضافة فعاليات في الفنادق التي تشترط موافقات أمنية للسماح بالأنشطة.
وتقول المنظمة إن شهادات أخرى توضح أن الفعاليات التي تحصل على الموافقة تخضع أحيانا لمراقبة من أفراد أمن بلباس مدني أو لمراجعة مسبقة للمواد السمعية والبصرية.
ورغم أن السلطات أغلقت القضية 173 في مارس 2024 لعدم كفاية الأدلة، وهي خطوة وُصفت حينها بأنها غير مسبوقة في الملفات ذات الطابع السياسي في مصر، ترى أمنستي أن القانون الجديد “يقوّض حق الجمعيات في حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها”، وأنه يعيد إنتاج القيود التي سبقت الإغلاق وإن بوسائل مغايرة.
على مستوى التمويل، يصف التقرير عملية مرهقة تجعل من الصعب على الجمعيات ممارسة عملها الأساسي. فحتى بعد التسجيل، تحتاج المنظمات إلى خطاب رسمي لفتح حساب مصرفي، وغالبا ما تنتظر شهورا إلى حين حصول البنك على “موافقة أمنية”. وبموجب القانون نفسه، يتطلب أي تمويل أجنبي موافقة مسبقة، وتملك الدولة حق الاعتراض خلال 60 يوما من دون تقديم مبررات واضحة.
وتشير قراءة لبيانات مشروع V-Dem، كما يعرضها الباروميتر العربي في يناير 2025، إلى أن عدد منظمات المجتمع المدني في مصر آخذ في التراجع رغم التعديلات على قانون الجمعيات، وأن مستوى استقلالية هذه المنظمات وقدرتها على العمل بحرية انخفض بشكل ملحوظ بين 2022 و2024، خصوصاً بسبب القيود على الوصول إلى التمويل المحلي والدولي.
هذه المنظومة القانونية، إلى جانب التدخلات الأمنية، تشكّل، بحسب باحثين في المركز الدولي لقوانين المنظمات غير الربحية ICNL، بيئة تعيد هندسة المجتمع المدني بحيث يصبح أقرب إلى ذراع تنفيذية للدولة” وفق تحليل نُشر هذا العام.
وبحسب باحثين في المركز الدولي لقوانين المنظمات غير الربحية ICNL، تشكّل المنظومة القانونية والأمنية في مصر إطارا مُنظّما يعيد تشكيل المجتمع المدني ويحوله تدريجيا إلى امتداد تنفيذي للدولة.
ولم ترد السفارة المصرية في واشنطن على طلب أرسلته “الحرة” بالبريد الالكتروني للتعليق بشأن تقرير المزاعم الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية.
وبينما تواصل الحكومة الحديث عن إصلاحات في إطار “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” التي أطلقتها قبل أربع سنوات، يكشف تقرير أمنستي أن الخلاف الأساسي لا يتعلق بالإجراءات أو الآليات، بل بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجال المدني ذاته. فالمشهد، كما تصفه العفو الدولية، لا يزال يتجاور فيه هامش ضيق من الانفراج مع منظومة واسعة من التحكم، وهو توازن يضع مستقبل المجتمع المدني في مصر أمام اختبار طويل ومعقّد.
ورغم الانتقادات الحادة الواردة في تقرير منظمة العفو، تواصل الحكومة المصرية تقديم قانون الجمعيات لعام 2019 باعتباره خطوة إصلاحية تُوسّع عمل المجتمع المدني. ففي عام 2021، وصفت وزارة التضامن القانون بأنه “نقلة نوعية” تتيح فرصا أكبر للتمويل وتبسيطا لإجراءات التسجيل. كما تشير الخارجية المصرية في مناسبات أخرى إلى “نهج عملي” يعكسه إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وإعلان 2022 “عام المجتمع المدني”. وعندما واجهت القاهرة انتقادات دولية أكثر مباشرة في مجلس حقوق الإنسان عام 2021، اعتبرت ما ورد “مزاعم غير دقيقة” واتهامات ذات دوافع سياسية، في تذكير بالفجوة المتواصلة بين رواية الدولة ورواية المنظمات الحقوقية بشأن حرية العمل الأهلي في مصر.



