في تحرّك دبلوماسي لافت قد يعيد ترتيب الأوراق في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، أعلنت إسرائيل إرسال ممثل رسمي إلى اجتماع يضم جهات حكومية واقتصادية لبنانية، في خطوة وصفتها رئاسة الحكومة الإسرائيلية بأنها “محاولة أولى لبناء قاعدة لعلاقة وتعاون اقتصادي بين إسرائيل ولبنان”.
الإعلان جاء بعد زيارة للمبعوثة الأميركية مورغان أورتيغوس إلى إسرائيل واتصال هاتفي جمع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع الأسبوع، في وقت يتصاعد فيه الحديث عن احتمال توسيع “اتفاقات إبراهام” مقابل تقديرات بانزلاق المنطقة نحو سيناريوهات تصعيد.
أوضح مكتب نتنياهو في بيان الأربعاء، تلقى مراسل “الحرة” نسخة منه، أن رئيس الحكومة أوعز للقائم بأعمال مستشار الأمن القومي غيل رايخ بإيفاد ممثل رسمي للمشاركة في الاجتماع، معتبرا أن الخطوة تحمل طابعا أوليا يرمي إلى “بناء أساس لعلاقات اقتصادية” بين الجانبين، رغم بقاء البلدين رسميا في حالة عداء.
يتقاطع هذا التحرك مع سلسلة أنشطة دبلوماسية أميركية مكثفة، إذ اجتمعت أورتيغوس في تل أبيب مع نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس وقائد شعبة الاستخبارات العسكرية شلومي بيندر. ووفق ما نقلته القناة 12 الإسرائيلية، عرضت تل أبيب على الوفد الأميركي “أدلة موثّقة” حول استمرار تسلّح حزب الله، مشيرة إلى أن الجيش اللبناني “لا يريد ولا يستطيع” فرض سيادة الدولة أو منع انتهاكات الحزب. كما أفادت القناة أن إسرائيل مرّرت رسائل مباشرة إلى الحكومة اللبنانية تعتبر فيها أن “المرحلة القادمة قد تكون أكثر حدة”، خصوصا بعد اغتيال القيادي العسكري في حزب الله علي طبطبائي، الذي تصفه إسرائيل بـ “رئيس أركان” الحزب.
ولا يقتصر التحرك الأميركي على زيارة أورتيغوس؛ إذ ينتظر أن يصل السفير الأميركي في الأمم المتحدة مايك وولز إلى إسرائيل الأسبوع المقبل، في إشارة إلى انخراط متزايد من واشنطن لوقف التدهور على الجبهة الشمالية وإعادة إحياء المسارات الدبلوماسية قبل تصعيد محتمل.
ويرى المحلل في هيئة البث الإسرائيلية عيران زينغر، في حديث مع “الحرة”، أن “الإعلان الإسرائيلي يعد مفاجأة كبيرة خاصة على خلفية التقارير في الأيام الأخيرة بإمكانية اندلاع حرب أخرى بين إسرائيل وحزب الله في الفترة القادمة”. ويضيف أن الإدارة الأميركية “تمارس مزيدا من الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لتهدئة الأوضاع والطلب الأميركي لعدم الذهاب إلى حرب إضافية مع حزب الله في لبنان”.
على الجانب اللبناني، أعلن الرئيس جوزيف عون تعيين السفير السابق والمحامي المدني سيمون كرم رئيسا للوفد اللبناني إلى “اجتماع آلية مراقبة وقف إطلاق النار” مع إسرائيل. وتُعدّ هذه المرة الأولى التي يُشرك فيها لبنان شخصية مدنية في اجتماع من هذا النوع، في خطوة فُهمت بوصفها محاولة لضخ طابع سياسي – اقتصادي في هذا المسار، وإظهار فصل نسبي عن المسارات الأمنية التقليدية التي يطغى عليها حضور حزب الله.
وبينما تتحرك القنوات الدبلوماسية بين بيروت وإسرائيل، أطلق نتنياهو رسائل لافتة من جبهة أخرى، خلال زيارته جنودا جرحى أصيبوا في الاشتباك في بلدة بيت جن في الجنوب السوري. إذ قال إن إسرائيل “عازمة على الدفاع عن حدودها ومنع تمركز أي عناصر معادية في المناطق القريبة”، قبل أن يضيف، وفق بيان تلقى مراسل “الحرة” نسخة منه: “بروح طيبة وفهم متبادل يمكن التوصل إلى اتفاق مع السوريين، لكننا سنتمسك بمبادئنا”.
ورغم غياب أي مؤشرات واضحة إلى تليين إسرائيلي تجاه النظام الجديد في دمشق، فإن توقيت التصريح يعكس رغبة في ترك الباب مفتوحا، لكن ضمن شروط أمنية مشددة، من أبرزها إقامة منطقة عازلة تمتد من دمشق إلى حدود جبل الشيخ “لمنع أي تهديد مباشر”.
وفي خلفية هذا المشهد المتشابك، بحث نتنياهو مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال اتصال هاتفي، “أهمية نزع سلاح حماس وإعادة إعمار غزة”، إلى جانب “أهمية توسيع اتفاقيات السلام”. ودعا ترامب نتنياهو لزيارة قريبة إلى البيت الأبيض، وفق بيان صادر عن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلة.
ورغم تزايد التوترات على الحدود الشمالية، وما يرافقها من تحذيرات إسرائيلية وتصعيد ميداني متقطع، تأتي هذه التحركات الدبلوماسية لتفتح المجال لاحتمالات غير متوقعة، إذ في الوقت الذي تبدو فيه أن إسرائيل تستعد لسيناريوهات تصعيد في أكثر من جبهة، تشارك في لقاء رسمي مع جهات لبنانية، وتتحرك واشنطن لتثبيت خطوط منع الانزلاق ودفع الأطراف إلى استكشاف مسارات دبلوماسية.
تزامن هذا الزخم الدبلوماسي مع تهديدات بالتصعيد يكشف عن مفارقة كبيرة: سباق بين منطق الحرب وقنوات الانفراج، ومحاولة أميركية لاستثمار لحظة ما بعد 7 أكتوبر لإعادة رسم خرائط النفوذ والتهدئة في آن واحد. وبين حذر لبناني وإسرائيلي وضغط أميركي مستمر، تتبلور ملامح مسار طويل نحو تسوية محتملة، مسار لا يزال في بداياته، لكنه يشير إلى تغيّر في نمط التعامل بين الأطراف، ولو بقي حتى الآن محكوما بسقف عالٍ من الشكوك والتوتر.



