في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يناقش الكاتب والصحافي إبراهيم عيسى الحرب التي يشنها المتطرفون على الفن، موضحا كيف جعلت الحركات السلفية المتشددة من معاداة الفن وسيلة لـ”تجفيف الوجدان” وتهيئة الناس لتقبّل العنف والكراهية.
ويشير عيسى إلى أن الاعتداء على الفن لم يكن مجرد سلوك عنيف، بل رافقته محاولة لصناعة فقه نظري يحرّم الموسيقى والغناء، رغم أن التاريخ الإسلامي وحياة المسلمين الفعلية لم تعرف يوما توقفا للفنون.
النص التالي يعرض أهم ما جاء في الحلقة، بعد إعادة تحريره لتسهيل القراءة:
لا شكّ أن الحركة السلفية في العالم الإسلامي، منذ بروزها وانتشارها في ما عُرف بـ”الصحوة الإسلامية” مطلع السبعينيات، مرورا بتجلّياتها المختلفة من حركة جهيمان العتيبي، وظاهرة “المجاهدين الأفغان”، وصولا إلى الاندفاع الهائل لتيارات الإسلام السياسي في مصر والغزو الوهابي الذي شهدته منذ تلك الفترة، قد انشغلت، بشكل جوهري وأصيل، بممارسة ما أسمّيه “تجفيف القلوب”.
مؤامرة على الوجدان
نعم، إنه تجفيف القلوب وتخشين النفوس؛ فهم يقسّون الطبائع لأنهم يرون أن التدين الحقيقي ينبغي أن يكون جهما، خشنا، فظا وغليظا. ولأنهم اعتبروا أن من أهم ركائز تدينهم السلفي هو “مواجهة الفن”.
وقد تتعجب وتتساءل: كيف لهؤلاء الذين يعتقدون أن الغرب يتآمر عليهم، وأن الاستعمار الصليبي يتربص بهم، وأن كلمة الإسلام مهددة، وكيف لهؤلاء الذين يرون أن رفع السلاح والتفخيخ والقتل والذبح هو الطريق إلى الجنة، وإلى رفع راية الإسلام وإقامة الخلافة… كيف يكون لكل هؤلاء الوقت للاهتمام بقضايا الفن؟
وأحيانًا أسأل نفسي سؤالا يلح على العقل والقلب معا: إذا كان الإسلامي المتطرف يدرك أهمية الفن إلى هذا الحد الذي يجعله يحاربه بتلك الضراوة؛ فكيف لا يدرك الفنان نفسه قيمة فنه؟ وهذا يفتح بابا للتأمل ويستدعي مراجعة من القائمين على الحياة الفنية في عالمنا العربي؛ فهم غير واعين تماما بمدى أهميتهم، بينما المدرك الحقيقي لذلك هو “الإسلامي”.
ولذلك كانت الحرب على الفن. يحارب الإسلامي الفن لأنه يحارب الوجدان. هو لا يريد وجدانا سليما، ولا يريد قلبا حنونا، ولا نفسا تتذوق الجمال. لماذا؟ لأن الوجدان الحساس، الذي يحب الأغنية، ويعشق الموسيقى، ويتذوق القصيدة، ويسعد بالمسرح والسينما، ويغني في الفرح، لا يمكنه أن يتحمل إباحة القتل، ولا أن يقبل كراهية الآخر.
فالرجل الذي يسمع الموسيقى، ويحب أم كلثوم، ويعشق عبد الوهاب، ولا يستيقظ إلا على صوت فيروز؛ هذا الرجل لا يمكن أن يكره الآخر أو يعاديه. لماذا؟ لأنه يملك وجدانا، وجدانا فنانا محبا للحياة. أما المتطرف فيريد أن ينزع ذلك منه، يريد أن ينتزع هذا الوجدان، يريد أن يجعله خشنًا؛ حتى إذا رآه يذبح، يجد الأمر عاديا، لا تهتز له مشاعر ولا ترتعش له يد، بل ربما يهلل ويكبر عند مشاهدة القتل والذبح.
فقه التحريم
كيف قرّر أن يضرب الفن؟ أول ما فعله هو ضرب الفن عمليا وواقعيا؛ بأن يتوجّه مباشرة إلى الاعتداء على الفنانين. الحفلات الفنية يقتحمها، والعروض الموسيقية يخربها، والمناسبات المسرحية يغزوها ويعطلها. وقد شهدنا في السبعينيات مشاهد واسعة ومدهشة في مختلف أنحاء الوطن العربي، وبخاصة في مجتمعنا المصري حيث تكررت هذه الاعتداءات.
ولعل أشهر هذه المواقف ما حدث عندما ذهب الفنان الكبير عادل إمام إلى إحدى قرى أسيوط في صعيد مصر ليقدّم مسرحيته متحديا الجماعة الإسلامية التي كانت قد اعتدت على فرقة مسرحية هناك، وضربت ممثليها ومطربيها وملحنيها وعازفيها، ومنعت العرض. فما كان من عادل إمام إلا أن يخوض معركة التحدي هذه، ويستقل قطارا مكتملا بالفنانين والمثقفين متوجها إلى قلب المحافظة نفسها التي شهدت الاعتداء، ليقدّم عرضه هناك.
إذاً، كان هناك اعتداء وضرب وعنف مباشر ضد الفن، بالإضافة إلى اغتيالات طالت فنانين في بعض الدول، بما في ذلك فنانين شعبيين.
أما الجانب الآخر من المواجهة، فكان إنشاء عمق فقهي نظري لتحريم الفن. فمن أجل أن يضرب ويخرب ويقتل، لا بد أن يبني مرجعية فكرية تقول إن الفن حرام. هكذا بدأوا بالبحث في التراث عمّا يمكن استنطاقه وتوظيفه لإعلان أن الفن حرام، وأن الغناء حرام، وأن الموسيقى من مزامير الشيطان.. وهكذا أدخلونا في دوامة من السجالات الفقهية القديمة.
أما رأيي فهو أن كل كتب الفقه التي حرّمت الفن والغناء والموسيقى لا تساوي الحبر الذي كُتبت به. فالمجتمعات المسلمة، في كل مكان، بما في ذلك مكة والمدينة، لم تتوقف يوما عن الغناء والموسيقى. الموسيقى كانت تصدح في مدينة الرسول، وهل هناك ما هو أوضح من هذا؟ والمغنيات كن يطربن أهل مكة. فلا تقل لي: قال الإمام الفلاني! وجاء في الفتوى الفلانية! كل هذا، بصراحة، لا يساوي شيئا.
هذه الأمور لم تمثل في أي مرحلة من التاريخ الإسلامي مشكلة للمسلمين؛ فقد عاش الناس حياتهم، والغناء مستمر، والموسيقى موجودة، وكل العصور، وكل الخلافة الإسلامية، شهدت مطربين ومطربات ومغنين ومغنيات وفنونًا مختلفة. فأين التحريم إذن؟ لا شيء، مجرد كلام مبثوث في الكتب.
نعم، ظل هناك دائما بعض المتشددين الذين يعتدون على الفنانين ويضربونهم، لكنهم ظلوا في دائرة ضيقة؛ المجتمع تجاوزهم دائما، ولم يصدر أي خليفة في التاريخ قرارا واحدا بتحريم الموسيقى أو الغناء أو الفن عموما. هات لي أي وثيقة من أي خليفة تقول بهذ!.
لكن ما الذي حدث عندما ظهرت “الحركة الإسلامية” الحديثة؟ أبقوا على فكرة “تحريم الفن” لأنهم يريدون ضرب الوجدان. فماذا فعلوا؟ أخرجوا ذلك التراث المنسي، المتشدد، المتروك في الكتب، واعتمدوه أساسا لشن حرب على الفن، وأطلقوا دعاوى أن الفن حرام. ووجدنا أنفسنا ندخل في جدل طويل ممجوج: الفن حلال أم حرام؟ وظهرت كتب وخناقات ونقاشات وحوارات لا تنتهي منذ سيطرة الفكر السلفي على العقل العربي.
لا يهمّني الإمام الذي حرّم، ولا الذي أحلّ، ولا الذي وضع شروطًا للفن. كل هذا إما موضوع، أو ضعيف، أو مرتبط بسياق تاريخي لا علاقة له بواقع اليوم. بينما الواقع الفعلي لحياة المسلمين ينسف كل ذلك؛ فالموسيقى والغناء كانا جزءا طبيعيا من الحياة، كما نراه اليوم في التمثيل والدراما والسينما.
“لهو الحديث” وجماليات الجنة
يقولون إنهم يستندون إلى آية في القرآن. دعك من الأحاديث الموضوعة، ومن التزييف والكذب على النبي؛ دعني أركّز على استشهادهم بالقرآن. ستجد كل إمام مسجد أو داعية على يوتيوب يصرخ في الناس، ويؤكد أن الفن هو “لهو الحديث”، وأن القرآن قصد بلهو الحديث الغناء والموسيقى.
تفتح كتب التفسير فتجد من يردد لك الكلام نفسه: “اللهو هنا هو الغناء”. لكن من قال هذا أصلًا؟ من أين أتوا بهذا اليقين أن لهو الحديث هو الغناء؟ لا النبي قال ذلك، ولا القرآن قال ذلك. فلو أراد الله سبحانه وتعالى تحريم الموسيقى والغناء لصرّح بذلك بوضوح، كما صرّح في أمور أخرى بتحريم الخمر والميسر والأزلام وغيرها. لكنه لم يفعل.
لو أراد الله تحريم الموسيقى لنصّ عليها وحدها. فلا تحرموا على الناس ما لم يحرمه الله. وعلى أي أساس تحرّم؟ لأن كلمة “لهو” جاءت في القرآن وهناك من قال لك إن اللهو هو الغناء.
ولو أردتُ أن أقدّم رأيي الشخصي، فـ“لهو الحديث” في نظري هو هذا الكلام الذي يصرخ بالتطرف والتشدد والتحريم والتكفير. هذا هو الكلام الذي يبعد الناس عن العدل والحرية والقيم العليا التي جاء بها القرآن. أليس هذا تفسيرًا ممكنًا أيضًا؟ لماذا يكون تفسيرك أنت يقينًا، وتفسيري مجرد رأي؟.
أقول ذلك بمنتهى الوضوح: مشكلتي ليست في أنّ لك رأيًا، بل في أنك تقدّمه وكأنه حقيقة قطعية، وأن الفن هو اللهو بلا نقاش. من أين جئت بهذا؟ إن قلتَ إنه من كتب التراث أو كتب التفسير، فأهلاً بالمعلومة، لكن من أين أتى المفسّر نفسه بهذا الربط؟ وعلى أي أساس؟
وإذا كان “لهو الحديث” هو الغناء، فكيف غنّى الناس في قصور الخلفاء وبيوت المسلمين؟ سيقولون لك: “هؤلاء جوارٍ في قصر هارون الرشيد”. لا يا عزيزي، كانت النساء يغنين في بيوت بغداد وأسواقها. ثم لماذا لا يكون “لهو الحديث” هو أي كلام يُبعد الإنسان عن قيم القرآن؟ لماذا لا يكون هو خطاب التكفير والتحقير والعداء المستمر؟ هذا اللهو الحقيقي.
دعونا إذن نحسم بعض النقاط الأساسية بخصوص الكلام على الفن والإسلام.
اتركوا تماما كل من يحاول إشغالكم بقضية “الفن حلال أم حرام”. فهذا رأيه الشخصي، شأنه وحده، ولا يستند إلى أي دليل لا من القرآن ولا حتى من السنة. وحتى لو وضع أحاديث أو زوّر روايات، فالواقع الفعلي لحياة المسلمين تجاوز كل ذلك.
أكثر من هذا، إذا لم يكن عندك ذائقة وحس، كيف ستدخل الجنة؟ كيف ستذذوقها؟ فكر قليلًا: هل يمكن لإنسان لا يحب اللون الأخضر، ولا يرى جمال الشجرة، ولا يتأمل جريان الماء والموج، ولا يهتز لصوت الموسيقى والأغاني وتغريد الطيور، ولا يمتلك أي ذائقة جمالية… هل يمكن لهذا الشخص أن يتذوق جمال الجنة؟
ماذا سيفعل هناك؟ الجنة كلها جمال، فكيف يستمتع بها من كان قلبه جافًا، غريبًا عن الشعور، أعمى وجدانيًا؟ كيف سيلمس هذا الجمال؟ كيف سيحسّه؟ حتى طعام الجنة يحتاج ذائقة فنان ليتذوقه ويقدّره ويستشعر حلاوته.
لن يدخل الجنة إلا فنان.. فكيف يكون الفن حراما؟ حرّمتم علينا عيشتنا.. الله يخرب بيوتكم.


