احتكار الجنة

هل يدخل المسلمون وحدهم الجنة؟ ماذا قال القرآن عن المسيحيين واليهود والصابئة، وغيرهم؟.. وما معنى آية “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب”؟

إبراهيم عيسى، الصحافي المصري المعروف، يناقش كل تلك الأسئلة في حلقته الأسبوعية الجديدة على منصات “الحرة” الرقمية.

النص التالي يعرض أهم ما جاء في الحلقة:

من الطبيعي والمنطقي، بل والإنساني جدا، أن يبقى الإنسان مشغولا بفكرة دخول الجنة. ومن البديهي أن يحلم المؤمن ويتمنى ويصلي كي يفوز بجنة الله. هذا أمر محمود. لكن غير الطبيعي وغير المنطقي، والعجيب أنه صار هو الغالب، أن ينشغل المؤمن انشغالا كبيرا بأن لا يدخل غيره الجنة.

يا سيدي، ما شأنك أنت؟ اهتم بنفسك. أن يكون همّك وجهدك وإيمانك وإخلاصك منصبًّا على أن تدخل أنت الجنة بعملك وسعيك، فهذا مفهوم. لكن الغريب جدا هو أن يتحول كل هذا فجأة إلى انشغال جارِف بأن يُحرم الآخرون من الجنة.

حراس البوابات

نرى أصحاب المذاهب لا يرضون لمذاهب أخرى بدخول الجنة، كما أن أتباع أديان كثيرة لا يتمنون لغيرهم ذلك. ودعني أتحدث عن المسلمين تحديدا، وعن ذلك المسلم السلفي المتشدد في تصوره، الذي يظن أنه وحده سيدخل الجنة. يرى غيره كفارا: قد يكونون جيرانه الشيعة، أو من يصفهم بالعلمانيين. أما المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو البهائي فالأمر عنده محسوم نهائيا.

بل حتى في الثقافة المصرية العامية نسمع من يقول: “فلان ده ما هيِوردش (لن يرِد) على جنة”، كأنه يصدر حكما قاطعا بأن هذا الإنسان لن يدخل الجنة. من أين أتت هذه الروح؟ لقد انتقلنا من أن يسعى الإنسان للجنة، إلى أن يسعى لئلا يدخلها غيره، ويجلس كأنه بوّاب على باب الجنة.

هذه الذهنية “المطوّعة” تجعل صاحبها كأنه قاض وحاكم. وهي في جوهرها، في الحقيقة، منازعة لإرادة الله. تخيّل أن يتجرأ الإنسان فينازع الله فيمن يدخل جنته.

ويجدر بنا أن ننتبه أيضا لمفهوم الجنة ذاته. فإذا كانت أوصاف الجنة في القرآن تأتي غالبا بطابع حسيّ مادي: جنات، وأعناب، وفواكه، وأنهار، وخمر، وعسل، ولبن… فإن بعض الأئمة، ومنهم الإمام محمد عبده، يرون أن هذه الصور رمزية ومعنوية للتشويق والتحفيز، وليست تقريرا ماديا حرفيا. قد يستغرب المرء هذا الكلام، لكنه صادر عن أئمة من داخل التراث الإسلامي لا من خارجه. فالجنة قد يكون لها جانبها الروحي والمعنوي، لا الجانب الملموس وحده.

السياق الحسي للجنة

مع ذلك، دعني أعود لفكرة “من يدخل الجنة”، لأن كل دين صار يتخيل أنه يحتكرها. ومرة أخرى سأتحدث عما أعرفه: الإسلام، وما يتردد في أفكار المذاهب المتشددة، بل وحتى في بعض التصورات التقليدية التي تُشعِر أصحابها أن الجنة “حكر” على المسلمين.

هل الجنة فعلا للمسلمين وحدهم؟ وهل أصحاب الديانات الأخرى لن يدخلوها؟ والسؤال الأهم: من أين جاء هذا القول؟ وما مصدره؟ هل أخبرنا الله في كتابه أن الجنة للمسلمين فقط؟ وأنهم يحتكرون دخولها؟ وأن أبواب الجنة لا تُفتح إلا لهم؟

قبل ذلك، أريد أن أؤكد شيئا مهما: هذا أصلا مما لا ينبغي أن ينشغل به أحد. الأصل أن ينشغل كل إنسان بسعيه إلى الجنة، لا بحرمان الآخرين منها. الجنة ليست مكانًا “مكتظا” حتى تتعامل معها كأن فيها حجزا بالأسبقية، فتخاف أن “تمتلئ”. تُدار المسألة أحيانًا وكأن الجنة “أوتوبيس” أو “قطار” مزدحم لن يسمح إلا بعدد محدود؛ فيتدافع الناس ويتصارعون ليصعدوا هم أولًا، ويدفعوا غيرهم بعيدا عن الباب.

وعلى أي حال، فمشاهد الجنة وتفاصيلها مما لا نعلمه علما مباشرا، وإنما نقترب منه بالرمز والتلميح. وما ورد من أمثلة قرآنية جاء للتشويق والتحريض على السعي. وكان المخاطب الأول أناس الصحراء والبادية ومن عاشوا في مكة والمدينة والجزيرة العربية، حيث البيئة قاسية وشحيحة الجمال؛ فلا أنهار هناك مثلا.

وعندما يُتلى عليهم وصف جنة فيها أنهار وماء وفير وظلال، فذلك يخاطب واقعهم الذي عرف الآبار وشحّ الماء وحرارة الجو. وحين تُذكر “الحسان” والحور العين في سياق مجتمع شديد الحسّية في تصور المتع، فمن الطبيعي أن تأتي الخطابات بما يفهمونه من داخل ثقافتهم.

“ليس بأمانيكم”

حسنًا، لو كانت الجنة بهذه الأوصاف الحسية المتخيلة (جنات، وأعناب، وفواكه، وأنهار، وخمر، وعسل، ولبن… إلخ)، فهذا في ذاته قد يكون لطيفًا. لكن لماذا تظن أنك وحدك من سيدخلها؟ قد يقول قائل: “القرآن قال لي ذلك”، فأقول: لا، ليس لك في القرآن نص صريح يمنحك احتكارا. هل قال القرآن إن المسلم وحده يدخل الجنة؟ هذا ادعاء لا يقوم على نص قاطع، بل يصطدم بآيات واضحة مثل:

“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ”.

الآية تذكر المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين، وتربط الأجر عند الله بالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. أي أن معيار النجاة ليس الهوية الدينية، بل حقيقة الإيمان والعمل. ومن يلتزم بدينه ويقيم شعائره ويستقيم في أخلاقه ومعاملاته وفق ما يعتقده حقًا، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليه ولا هو يحزن.

فلماذا تقول: “أنا وحدي”؟. نعم، قد يفسر بعضهم “الذين آمنوا” بالمسلمين، لكن النص بعد ذلك يذكر غيرهم صراحة: اليهود والنصارى والصابيئن. فمن أين جاءت فكرة الاحتكار؟

ثم تجد في كتب بعض المفسرين من يقول: “الديانات الأخرى يدخل منها من سبق بعثة النبي، أما بعد البعثة فلا نجاة إلا بالدخول في الإسلام”. من أين جاء هذا القطع؟ هذا اجتهاد صاحبه، وتأويله، وانحيازه، لا نص صريح يلزم الجميع. هل قال الله ذلك نصا بهذه الصيغة القاطعة؟ لا. بل إن القرآن يعالج أصل الفكرة نفسها: فكرة “الأماني” واحتكار النجاة.

القرآن رفض فكرة احتكار الجنة في آية “لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَاب”، والتي يذكر مفسرون أنها نزلت بعد جدل وقع بين مسلمين ويهود ومسيحيين، حيث قال كل فريق إنهم الأفضل وإنه لن يدخل الجنة إلا من كان منهم، فجاء القرآن يحسم: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب.

دعوا الخلق للخالق!

ثم يأتي من يقول: “يعني ممكن الأوروبيون والغربيون والصينيون… يدخلوا الجنة؟” نعم، ممكن.

لكن دعنا نرجع خطوة: لماذا تسأل أصلا؟ ولماذا تشغل نفسك بهذا؟ ما شأنك أنت؟ ومع ذلك، إن أصرّ السائل، فالجواب: القرآن يربط الأجر والعمل الصالح والإيمان بالله واليوم الآخر، ويقول صراحة: ليست القضية أماني فريق دون فريق.

ثم افترض أنك في القاهرة أو بغداد أو الجزائر أو المغرب أو السعودية، وهناك إنسان في أقصى الدنيا دخل الجنة… ما الذي ينقصك أنت؟ ما الضرر الواقع عليك في دخوله الجنة؟

لماذا يشعر بعض المسلمين، وخاصة المتشددين، بل وبعض التقليديين، أن دخول غيرهم الجنة يُعدّ انتقاصا منهم أو طعنا فيهم؟ لماذا؟ الأولى أن تبذل جهدك لتعرف كيف تنجو أنت، لا أن تتقمص دور الحَكم والجلاد والقاضي والمطوّع، ولا أن تجعل همّك مصير الأديان الأخرى.

أنت أصلًا ما شأنك بجنة غيرك؟ ادخل أنت الجنة إن استطعت، فنحن جميعًا إن دخلناها فبرحمة الله. رحمته أوسع من أمانينا وتصوراتنا.

إبراهيم عيسى

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading