لا يوجد مصطلح تم التلاعب به، واستخدامه واستغلاله، مثل مصطلح الإسلاموفوبيا. السؤال هو: هل هناك فوبيا ضد الإسلام في الغرب؟ أنا كمسلم لا أعيش في الغرب، لكن تكفي حياتي في الشرق أو الجنوب أو العالم العربي كي أقول لك إن الإسلاموفوبيا صناعة إسلامية، وتجارة إخوانية وبضاعة غربية.
كيف؟
سأقول لك كيف، لكن اصبر معي قليلا.
الإسلام في الغرب يتعرض إلى اختطاف. لم يتم إختطافه فقط من كراهية اليمين المتطرف – الذي يدعي أن كراهيته هي كراهية مضادة أمام كراهية الإسلام له – ، بل اختُطف، وهذا هو الأخطر، من جماعات تزعم الدفاع عن الإسلام، وتعيش على تجارة المظلومية، وتحوّل الخوف إلى استثمار، والدين إلى شركة عابرة للقارات. الإسلاموفوبيا، التي يفترض أنها عرض فكري ذهني لمرض التعصب والعنصرية، تحولت في يد جماعة الإخوان المسلمين إلى سلاح هجومي، لا دفاعي؛ سلاح للهيمنة لا للحماية، وللاحتكار لا للحرية.
هنا لا نتحدث عن عنصرية حقيقية ينبغي مقاومتها، ولا عن اعتداءات على مسلمين يجب إدانتها بلا تردد، بل عن صناعة متكاملة، ماكينة سياسية وأيديولوجية، تُدار بدهاء، وتُستخدم لإسكات أي صوت نقدي، ولو كان مسلما، ولو كان ابن الثقافة نفسها، بل ولو كان حريصا على الإسلام أكثر من خاطفيه.
ليست الإسلاموفوبيا، في الخطاب السائد داخل أوروبا وأميركا، حالة خوف بريئة من هجمات الإرهاب المتأسلم أو ردة فعل عفوية ضد العنف الذي يرفع شعارا إسلاميا أو في مواجهة حوادث الدهس والطعن وإطلاق الرصاص علي تجمعات مدنية آمنة وبريئة، أو حتى نزعة عنصرية عمياء كما يحاول البعض أن يفسرها، أو يبررها، لكن الإسلاموفوبيا، في واقعها الأكثر خطورة، تحولت إلى سلاح سياسي مُصنَّع، مُدار، ومُستثمَر بمهارة، سلاح في يد التيار الإسلامي السياسي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، يُستخدم لا للدفاع عن الإسلام ولا عن المسلمين، بل للسيطرة عليهم، واحتكار تمثيلهم، وفرض الوصاية عليهم، وابتزاز المجتمعات الغربية باسمهم.
الإخوان المسلمون، منذ سبعينيات القرن الماضي، أدركوا مبكرا أن الغرب ليس فقط ملاذا آمنا من الملاحقات في الشرق، بل ساحة نفوذ مفتوحة، رخوة، مليئة بالثغرات الأخلاقية والتاريخية والنفسية، هناك شعور غربي عميق بالذنب: ذنب الاستعمار، ذنب الإمبريالية. هذا الشعور بالذنب، الذي يُفترض أن يكون دافعا لمراجعة الذات وبناء عدالة إنسانية حقيقية، جرى اختطافه وتحويله إلى أداة شلل فكري، تستثمرها الجماعات الإسلامية السياسية ببراعة مذهلة.
أكبر سلاح امتلكته هذه الجماعات هو الإسلاموفوبيا. لا بوصفها ظاهرة ينبغي تفكيكها وعلاجها، بل بوصفها فزاعة تُرفع في وجه كل ناقد، وكل معترض، وكل مفكر، وكل مسلم يرفض اختزال دينه في جماعة، أو اختزال هويته في شعار. الإسلاموفوبيا هنا لا تُستخدم لمواجهة عنصرية حقيقية، بل لتأديب المخالف، وإسكاته، وتجريمه، وتحويله إلى متهم أخلاقي وسياسي.
الإخوان المسلمون في أوروبا وأميركا اكتشفوا مبكرا كنزا لا يُقدَّر بثمن: عقدة الذنب الغربية. تاريخ من الاستعمار، وحاضر من الإمبريالية، وماضٍ مثقل بالنازية والعنصرية. كل هذا أنتج وعيا غربيا مرتبكا، يخاف من أن يُتَّهم، ويتراجع قبل أن يفكر، ويصمت قبل أن يناقش. هنا دخل الإسلام السياسي من أوسع الأبواب، لا كضيف، بل كوصي أخلاقي.
أي نقد للتطرف من أطراف غربية أو حتي مسلمة، يرمون في وجهها الاتهام بالإسلاموفوبيا.
حديث عن الإرهاب؟ إسلاموفوبيا. محاولة لتنظيم المجال الديني؟ حرب على الإسلام. اعتراض على حجاب قسري أو نقاب سياسي؟ اضطهاد ديني.
هكذا ببساطة، يتحول النقاش العام إلى محكمة تفتيش معكوسة، يُدان فيها الناقد مسبقا، ويُمنح المتطرف حصانة أخلاقية كاملة، فقط لأنه يتحدث باسم الإسلام، أو هكذا يدّعي.
في أوروبا وأميركا، تحولت معادلة النقاش إلى عبث كامل: أي نقد للتطرف الإسلامي يُساوى فورا بالعداء للإسلام. أي حديث عن عنف يرتكبه مسلمون يُرد عليه باتهام الإسلاموفوبيا. أي إجراء قانوني تنظيمي، كمنع الحجاب في المدارس الحكومية الفرنسية، أو مراقبة تمويل الجمعيات الدينية، يُقدَّم باعتباره حربا على الإسلام نفسه. فجأة، صار الإخوان هم الإسلام، وصار الإسلام هو الإخوان، ومن يخرج عن هذا الدمج القسري يُصنَّف خائنًا، أو عميلاً، أو أداة في يد الإمبريالية.
أخطر ما في هذه اللعبة أن الإخوان لا يدافعون عن المسلمين بوصفهم مواطنين، بل يحتكرون تمثيلهم بوصفهم جماعة دينية مُغلقة. يصبح الإخوان هم الإسلام، ويصبح الإسلام هو الإخوان. من يخرج عن هذه المعادلة يُنفى أخلاقيًا، ويُخوَّن سياسيًا، ويُتهم بالعمالة للاستعمار أو للأنظمة المستبدة.
مفكر عربي؟ إسلاموفوبيا. كاتب مسلم؟ خادم للإمبريالية. مسيحي عربي ينتقد الإسلام السياسي؟ صليبي جديد.
المفارقة الساخرة أن الإخوان، وهم يرفعون شعار الدفاع عن الدين، يمارسون أقسى أنواع الوصاية على المؤمنين، ويحوّلون الإيمان إلى بطاقة هوية سياسية، ومن لا يحملها يُشكَّك في دينه.
هنا يدخل اليسار الغربي إلى المشهد، لا بوصفه حليفًا للديمقراطية، بل ضحية ابتزاز عاطفي ناجح. اليساري، الذي يلعن النازية بلا تردد، ويُجرّم اليمين العنصري بلا نقاش، يتردد فجأة أمام الإسلام السياسي. لماذا؟ لأن شبح الاستعمار يطارده، واستغلال الغرب لشعوب المسلمين واحتلال الغرب لدول المسلمين يدفعه إلي هذا الإحساس بالذنب الذي يُعطّل المنطق، فيُصاب بارتباك أخلاقي. اليسار الغربي تحديدًا، بحساسيته التاريخية المفرطة، المحقة، تجاه الاستعمار والعنصرية، يقع في الفخ. يتعامل مع الإسلاميين بوصفهم “معارضة سياسية”، لا بوصفهم حركة شمولية دينية تحمل مشروعًا مناقضًا للديمقراطية من جذورها، يتعاطف مع خطابهم المتعصب باعتباره خصوصية ثقافية يجب احترامها (صار مطلوبا أن تحترم قمع المرأة بالحجاب القهري أو النقاب لمجرد أن هناك من أخبر هذا اليساري الطيب أن هذه تعاليم هؤلاء المسلمين ويجب احترامها). ويخلط اليساري أو الليبرالي المثقل بالذنب بين حرية الدين وحرية المشروع الأيديولوجي المتطرف، فيدافع عن النقاب مثلا باعتباره “خصوصية ثقافية” لا يجوز المساس بها، دون أن يسأل: خصوصية من؟ ولمصلحة من؟ ومن قال أنه خصوصية؟ لن يسمع من يقول له أنها فريضة سياسية وليست دينية، وأن المسلم ليس هو الإسلامي.
المفارقة المذهلة مرة أخرى أن هذا اليسار نفسه لا يتردد لحظة في مواجهة النازية، أو اليمين العنصري، أو الحركات الفاشية البيضاء. لا يقول يوما: هذه ثقافتهم، دعوهم يعبرون عن أنفسهم. لا يتردد في تجريم خطاب الكراهية، لأنه يدرك أن هذه التيارات تهدم الديمقراطية من الداخل. لكن حين يتعلق الأمر بالإسلام السياسي، يتعطل المنطق. يصبح النقد “عنصرية”، والمواجهة “اضطهادًا”، والرفض “إسلاموفوبيا”.
تخيل المشهد لو طُبق المنطق ذاته على النازية: لماذا تحاربون النازيين؟ أليست هذه قناعاتهم؟ أليست هذه ثقافتهم؟ أليست حرية التعبير؟ لكن أحدًا لا يقول ذلك، لأن الخطر واضح. أما الخطر الإسلامي السياسي، فيُغلف بخطاب المظلومية، ويُحمى بسلاح الإسلاموفوبيا. فيصبح الإسلاميون “معارضة سياسية”، لا حركة شمولية وتيارا متطرفا وجماعات تكفيرية ومنظمات إرهابية. ويتحول النقاب إلى “خصوصية ثقافية”، لا أداة قمع، ويُختزل الدين في طقوس ظاهرية، لا قيم إنسانية.
في المقابل، لا يتوقف الخطاب الإخواني عن ممارسة نقيض الإسلاموفوبيا تماما وهو الغربفوبيا. الغرب في هذا الخطاب الإسلامي السلفي الاخواني، كافر، متآمر، منحط، صليبي، يسعى لهدم الإسلام، وتدمير القيم، ونشر الفساد، كل ما يأتي من الغرب مُدان أخلاقيًا، إلا ما يخدم الجماعة: التكنولوجيا، وسائل التواصل، الجامعات، اللقاحات، السيارات، المنصات الإعلامية، الغرب شر مطلق… لكن خدماته نعمة، قيمه فاسدة… لكن حرياته مطلوبة، ديمقراطيته كفر، لكن العيش تحت حمايته ضرورة.
تناقض فج لا يثير أي حرج، لأن الهدف ليس الاتساق، بل السيطرة.
ثم أن المسلم في الغرب لا يُراد له من هذه الجماعات أن يكون مواطنًا كامل الحقوق، بل عضوًا دائمًا في غيتو نفسي وثقافي. لا اندماج، لا انتماء، لا مشاركة. يتم زراعة شعور مزدوج داخله: أنت أفضل أخلاقيًا، وأنت مضطهد دائمًا. هذا الخليط السام يصنع التبعية المثالية.
الحجاب هنا ليس إيمانًا، بل راية، الهوية ليست تنوعًان، بل خندقًا، الاختلاف ليس ثراءً، بل صدامًا.
أي اعتراض على هذا النموذج يُواجه فورًا بتهمة الإسلاموفوبيا، وكأن الإسلام لا يعيش إلا في حالة اشتباك دائم.
لهذا مثلا يكرهون محمد صلاح، لاعب الكرة المصري المسلم الأشهر في العالم لأن محمد صلاح كابوسهم الثقيل، مسلم ناجح، مندمج، محبوب، لم يحتج إلى خطاب مظلومية، ولم يرفع راية الصدام. يركل الإسلاموفوبيا بحذائه الرياضي، ويثبت أن الإيمان يمكن أن يعيش بلا ضجيج، وبلا كراهية، وبلا ابتزاز.
يكرهون كل من ينجح دون أن يلعن الغرب، وكل من يندمج دون أن يذوب تدينه، وكل من يثبت أن الهوية لا تحتاج إلى عداء كي تبقى.
الخطر الحقيقي أن أجيالًا من المسلمين في الخارج لم تتعرف على الإسلام كرسالة قيم، بل كمشروع صراع، عرفوه عبر دعاة، ومنصات، وجمعيات، لا ترى في العالم إلا مؤامرة، ولا في الاختلاف إلا تهديدًا، هنا تصبح الإسلاموفوبيا سلاحًا فعالًا، لأن الأرض مهيأة بالخوف والجهل والقلق الهوياتي.
لكن الإسلاموفوبيا ليست قدرًا، وليست مؤامرة كونية، وليست مبررًا لاختطاف الدين. أخطر ما فيها ليس كراهية البعض للمسلمين، بل استخدامها لتكميم عقول المسلمين أنفسهم، حين تتحول إلى سلاح في يد الإخوان، فهي لا تحمي الإسلام، بل تسيء إليه، ولا تدافع عن المسلمين، بل تسجنهم في صورة الضحية الأبدية.
الدفاع الحقيقي عن الإسلام – الإسلام الحقيقي الأصيل والأصلي وليس الإسلام السياسي – لا يكون بالصراخ، بل بالعقل، لا يكون بالابتزاز، بل بالثقة، لا يكون باختطاف الهوية، بل بتحريرها.
الإسلاموفوبيا، بهذا المعنى، ليست فقط ظلمًا يقع على المسلمين، بل جريمة تُرتكب باسمهم. سلاح يخدم الإخوان، لا الإسلام. يُستخدم لا لحماية البشر، بل لاختطاف العقول. لا لمواجهة العنصرية، بل لتغذيتها. لأنه كلما زاد التوتر، زادت الحاجة إلى “الوصي”.
إن مواجهة الإسلاموفوبيا الحقيقية لا تكون بتكميم الأفواه، ولا بتقديس الجماعات، ولا بابتزاز المجتمعات، بل بتفكيك التطرف، وفضح استغلال الدين، والدفاع عن حق المسلم في أن يكون إنسانًا ومواطنًا، لا جنديًا في مشروع سياسي. ما عدا ذلك، ليس دفاعًا عن الإسلام، بل خيانة له.
أما الذين يبيعون الخوف، فسيظلون يصرخون: إسلاموفوبيا… إسلاموفوبيا… حتى لا نسمع السؤال الأهم: من الذي يخاف حقًا من إسلامٍ حر، إسلام بلا جماعة تدعي أنها الإسلام ، وبلا وصاية من تيار متطرف يزعم أنه حامي حمي الإسلام؟



