انسحاب يونيفيل والتصعيد العسكري في لبنان

دخل الوجود الدولي في جنوب لبنان مرحلة العدّ العكسي، مع بدء قوات حفظ السلام الدولية “يونيفيل” تقليص عديدها، إذ سُحب ربع قوامها دفعة واحدة، وفق ما أكدت المتحدثة باسم البعثة، كانديس أربيل، في مقابلة مع صحيفة “إزفستيا“.

ومن المقرر أن يستمر انسحاب الـ”يونيفيل” بشكل تدريجي تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2790 القاضي بتمديد ولايتها للمرة الأخيرة حتى 31 ديسمبر 2026، على أن يبدأ خفض قوامها وانسحابها بشكل منظم وآمن اعتباراً من ذلك التاريخ وفي غضون سنة واحدة.

ويشكّل هذا التطور تحوّلاً لافتاً في مقاربة المجتمع الدولي للملف الأمني على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، ويفتح نقاشاً واسعاً حول مستقبل الاستقرار في جنوب لبنان، خصوصاً بشأن البدائل المحتملة لمراقبة “الخط الأزرق” الحدودي بين لبنان وإسرائيل وقدرة الجيش اللبناني على ملء الفراغ الأمني بعد اكتمال انسحاب القوة الدولية.

تشكيك بجدوى المهمة

واجهت “يونيفيل”، خلال السنوات الماضية، انتقادات واتهامات إسرائيلية متزايدة بالفشل في ضبط الحدود وكبح نشاط حزب الله جنوب نهر الليطاني. وتستند الانتقادات إلى القرار الدولي 1701 الذي حصر الوجود المسلح جنوب الليطاني بالجيش اللبناني والقوة الدولية.

غير أن حزب الله تمكن من بناء ترسانة عسكرية متطورة، شملت شبكة أنفاق ومستودعات سلاح بعضها قرب مواقع تابعة لـ”يونيفيل”، ما أثار تساؤلات حول قدرة القوة الدولية على رصد الخروقات ومنعها.

وفي هذا السياق، يرى رئيس جهاز الإعلام في حزب “القوات اللبنانية” شارل جبور، في حديث لموقع “الحرة”، أن “يونيفيل لم تقم بدورها منذ عام 2006” تاريخ صدور القرار 1701، معتبراً أن حزب الله “بنى خلال هذه الفترة ما يشبه جمهورية إيرانية تحت الأرض في جنوب لبنان، في مخالفة واضحة للقرار الدولي”، متسائلاً: “أين كانت طوال هذه السنوات؟”.

وخلال الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، اكتفت “يونيفيل” بتوثيق الانتهاكات ومراقبة التطورات الميدانية، من دون القدرة على التأثير في مسار التصعيد بينهما، وهو ما اعتبره مراقبون تقصيراً قياساً بحجم التفويض الدولي الممنوح لها.

وفي 13 أكتوبر 2023،، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى سحب قوات “يونيفيل”، معتبراً أن استمرار وجودها يشكّل “درعاً بشرياً” لمقاتلي حزب الله، ومحذّراً من أن بقاءها “يحوّلها إلى رهائن ويعرّض حياة جنودها وحياة الجنود الإسرائيليين للخطر”.

كما عبّرت إسرائيل عن مخاوف من أن صلاحيات “يونيفيل” في رصد تحركات الجيش الإسرائيلي قد تُستغل لتسريب معلومات حساسة إلى حزب الله، وفق ما أفادت به إذاعة الجيش الإسرائيلي في 30 نوفمبر الماضي.

وفي هذا الإطار، يشير الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد ناجي ملاعب، في حديث لموقع “الحرة”، إلى قرار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، “جمع نحو 700 سيارة صينية مملوكة لضباط الجيش، نتيجة التخوف من التكنولوجيا المتقدمة المدمجة فيها واحتمال تسريب بيانات حساسة تتعلق بالمواقع والصوت والصور داخل القواعد العسكرية”.

رفض غير معلن

في المقابل، تتكرر حوادث اعتراض دوريات “يونيفيل” من قبل سكان بعض القرى الجنوبية، وبلغ التوتر ذروته عام 2022، عندما تعرّضت مدرعتان تابعتان للقوة الدولية لإطلاق نار أدى إلى مقتل جندي إيرلندي وإصابة آخرين.

ولم تقتصر الاعتداءات على الجنوب، إذ تعرّضت قافلة تابعة لليونيفيل في فبراير الماضي لهجوم قرب مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، ما أدى إلى إصابة عدد من جنود قوات حفظ السلام بجراح.

ويرى مراقبون أن هذه الحوادث لا تعبّر عن رفض شعبي عفوي، بقدر ما تشكّل تكتيكاً منظّماً يهدف إلى تضييق هامش حركة القوة الدولية وإضعاف قدرتها على تنفيذ تفويضها.

وفي هذا الإطار يعتبر جبور أن “رفض حزب الله لليونيفيل يعود إلى سعيه للضغط عليها ومنعها من أداء مهامها، ولا سيما فيما يتعلق بمنع وجود أيّ سلاح خارج إطار الشرعية اللبنانية والقرارات الدولية”.

أما الكاتب والصحفي مجد بو مجاهد فيقول لموقع “الحرة”: “من الواضح أن حزب الله لا يرتاح لقوّة اليونيفيل لأنّها يمكن أن تعرقل محاولات لإعادة سيطرته على مناطق اضمحلّ نفوذه فيها في جنوب لبنان. كما أنّ حضور قوّة دولية في منطقة جنوب الليطاني، يغيظ إيران التي ما تزال تتشبّث في إبقاء حزب الله على سلاحه. أمّا إسرائيل، فتخفّض من قدرة اليونيفيل على تحقيق متغيّرات تقلّل أكثر من نفوذ حزب الله على الأراضي اللبنانية”.

بدوره يشير الباحث في الشأن السياسي نضال السبع إلى أن كلاً من إسرائيل وحزب الله “لا يملك مصلحة حقيقية في بقاء هذه القوة الدولية، فإسرائيل لا ترغب بوجود جهة دولية توثّق خروقاتها، فيما يتهمها الحزب، من الجهة المقابلة، بتزويد إسرائيل بمعلومات عن مواقع يشتبه بوجود سلاح فيها”.

وفي المقابل، تقتضي مصلحة الدولة اللبنانية كما يقول السبع لموقع “الحرة” “استمرار اليونيفيل كضمانة دولية، وهو الموقف الذي عبّر عنه الرؤساء الثلاثة”.

نهاية المهمّة

على الضفة الأميركية، برز موقف متقارب مع الطرح الإسرائيلي، إذ رأت واشنطن أن استمرار “يونيفيل” في مهمتها يشكّل عبئاً مالياً من دون تحقيق نتائج ملموسة، ويؤخّر تقليص نفوذ حزب الله وبسط السيطرة الكاملة للقوات المسلحة اللبنانية. وترجم هذا التوجّه عملياً عبر خفض التمويل الأميركي المخصص للقوة الدولية، ما مهّد الطريق لقرار إنهاء ولايتها.

واستجابة للموقف الأميركي صوّت مجلس الأمن الدولي في 28 أغسطس الماضي بالإجماع على إنهاء مهمة “يونيفيل” بنهاية عام 2026، بعد نحو خمسة عقود على انتشارها في جنوب لبنان.

ورحّبت إسرائيل بالقرار، ووصف سفيرها لدى الأمم المتحدة داني دانون إنهاء المهمة بأنه “خبر جيد”. في المقابل، أعلنت دول أوروبية، ولا سيما فرنسا وإيطاليا، معارضتها للانسحاب السريع، محذّرة من أن إنهاء المهمة قبل أن يتمكّن الجيش اللبناني من ضبط الحدود بالكامل قد يخلق فراغاً أمنياً خطيراً يستفيد منه “حزب الله”.

ويعود انتشار قوات “يونيفيل” إلى عام 1978، عقب صدور القرارين الدوليين 425 و426 الداعيين إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية. وبعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، حدّدت الأمم المتحدة “الخط الأزرق” الحدودي بين لبنان وإسرائيل بطول نحو 120 كيلومتراً، والذي تتولى “يونيفيل” مراقبته.

وعقب حرب يوليو 2006، عزّز القرار 1701 مهام القوة، موسّعاً ولايتها لتشمل مراقبة وقف الأعمال العدائية ومساعدة الجيش اللبناني على إنشاء منطقة خالية من السلاح بين “الخط الأزرق” ونهر الليطاني، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع استخدام منطقة عملياتها في أيّ أنشطة عدائية.

ووفق بيانات الأمم المتحدة، بلغ عدد عناصر اليونيفيل في 20 نوفمبر 2025 9,923 جندياً، مقارنة بـ10,800 في مرحلة سابقة.

سيناريوهات المستقبل

مع بدء انسحاب “يونيفيل”، يتصاعد القلق من فراغ أمني محتمل في جنوب لبنان. وسبق أن أكّد المتحدث باسم القوة الدولية، أندريا تيننتي، على أن ثمة حاجة ماسة لوجود البعثة، التي سينتج عن غيابها “فراغ حقيقيّ في استقرار المنطقة”.

وفي هذا الإطار، يقول بو مجاهد: “لا يمكن الحفاظ على ما تبقّى من استقرار في جنوب لبنان من دون حضور دوليّ على طريقة قوّة اليونيفيل أو من دون رعاية دولية سياسية للأوضاع بين لبنان وإسرائيل”.

ويشير بو مجاهد إلى أنه “يمكن للبنان وإسرائيل أن يحقّقا تقدّماً تفاوضيّاً في حال تشكيل لجنة سياسية تقوم بالتفاوض المباشر بينهما، قائلاً: “ليس في قدرة لجنة الميكانيزم، التي تتابع تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، التوصّل إلى حلول في الملفات الديبلوماسية والجيوسياسية رغم أنّ الوفد اللبنانيّ فيها حاليّاً برئاسة مبعوث مدنيّ لبنانيّ”.

وخلال لقائه وفداً من مجلس الأمن في الخامس من الشهر الجاري، شدّد رئيس الحكومة نواف سلام، على ضرورة الإبقاء على شكل من أشكال الحضور الأممي بعد انتهاء ولاية “يونيفيل”، مقترحاً أن يعمل تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة (UNTSO)، أو عبر إنشاء قوة محدودة شبيهة بقوة “أندوف” المنتشرة في الجولان. كما أعلن رئيس الجمهورية جوزاف عون استعداد لبنان للتعاون مع أيّ دولة تبقي قواتها أو جزءاً منها في الجنوب، في إطار دعم الجيش اللبناني وتعزيز قدراته.

ويرى بو مجاهد أن لبنان “سيبقى بحاجة، إلى ما تقوم به قوّة اليونيفيل حاليّاً، وسيحتاج إلى مهامّها لأكثر من سنة واحدة في حال لم تنجح المساعي التفاوضية القائمة بين إسرائيل ولبنان”

لكن ملاعب يعتقد ” ألّا حاجة فعلية لقوى دولية” معتبراً أن “الجيش اللبناني قادر على تولّي مهام اليونيفيل وحماية الجنوب ومراقبة الحدود، شرط تأمين الموارد والدعم اللوجستي، لاسيما مع وجود استراتيجية لإنهاء السلاح خارج مؤسسات الدولة”.

أما جبور، فيرى أن الحديث عن بدائل لـ”يونيفيل” لا يزال مبكراً، مرجّحاً أن يحمل عام 2026 تطورات إقليمية كبرى. ويؤكد أن “الاستقرار الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال بسط الدولة اللبنانية سيطرتها الكاملة على أراضيها، ومنع أيّ قوى غير شرعية من استخدامها منصة لخدمة أجندات داخلية أو إقليمية”.


اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك لتصلك أحدث التقارير من الحرة

* حقل الزامي

اترك رد

https://i0.wp.com/alhurra.com/wp-content/uploads/2025/08/footer_logo-1.png?fit=203%2C53&ssl=1

تابعنا

© MBN 2025

اكتشاف المزيد من الحرة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading