لم تُقدَّم صفقة تصدير الغاز من إسرائيل إلى مصر، التي صادقت عليها الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا، كخبر اقتصادي عابر، بل كحدث مركزي أعادت من خلاله القيادة الإسرائيلية صياغة خطاب الطاقة بوصفه إنجازا وطنيا واستراتيجيا. غير أن هذا الخطاب، الذي بدا متماسكا على منصة المؤتمر الصحفي، سرعان ما فتح نقاشا أعمق في الداخل الإسرائيلي، حول دوافع الصفقة وتوقيتها وحدودها، وحول ما إذا كانت بالفعل تعزز أمن إسرائيل أم تفتح بابا لأسئلة مؤجلة.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو مع وزير الطاقة والبنى التحتية إيلي كوهين، سعى نتنياهو إلى تثبيت الصفقة بوصفها “الأكبر في تاريخ إسرائيل”، مؤكدًا في بيان صادر عن مكتبه وتلقت الحرة نسخة منه أن قيمتها تبلغ 112 مليار شيكل، “سيدخل منها نحو 58 مليار شيكل إلى خزينة الدولة”. وقال نتانياهو إن هذه الأموال “ستُستخدم لتعزيز التعليم والصحة والبنى التحتية والأمن ومستقبل الأجيال القادمة”، في ربط مباشر بين الاتفاق ومستوى معيشة الإسرائيليين.
وأضاف نتنياهو في كلمته: “أنا صادقت على الصفقة بعد أن ضمنت المصالح الأمنية والمصالح الحيوية الأخرى لإسرائيل”، معتبرًا أن الاتفاق “يعزز مكانة إسرائيل كقوة طاقة إقليمية ويساهم في استقرار منطقتنا”. هذا التشديد على البعد الأمني، من دون كشف تفاصيله، عُدّ من قبل مراقبين إسرائيليين محاولة لإضفاء طابع سيادي على صفقة تصدير تجارية، في بيئة إقليمية تتسم بعدم اليقين.
وزير الطاقة إيلي كوهين بدوره وصف الاتفاق بأنه “لحظة تاريخية”، مشيرا إلى أنه يرسّخ مكانة إسرائيل “كقوة طاقة إقليمية تعتمد عليها دول الجوار”. وأكد أن المصادقة جاءت بعد مفاوضات طويلة، وبعد ضمان المصالح الأمنية والاقتصادية، لافتًا إلى أن الصفقة تضمن أولوية للسوق المحلية الإسرائيلية، مع آليات لتحسين أسعار الغاز داخليا، إلى جانب استثمارات مباشرة تتجاوز 16 مليار شيكل.
غير أن الخطاب الرسمي لم ينجح في إسكات النقاش الداخلي. فقد رأى المحلل الصحفي الإسرائيلي زيكي يعكوبي، في حديثه مع الحرة، أن “رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو يحاول استثمار هذه الصفقة في المعركة الانتخابية”، معتبرًا أن ذلك “بدا بوضوح من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزير الطاقة إيلي كوهين، وطريقة تقديم الصفقة للرأي العام”.
وأشار يعكوبي إلى أن الصفقة أعادت إلى الواجهة جدلا قديما في إسرائيل حول حجم الاحتياطات الغازية، موضحا أن “هناك نقاشا حادا في إسرائيل مفاده: إذا كنت تصدّر الغاز إلى مصر، فقد تمس بالاحتياطات الاستراتيجية، إلى حد قد لا يبقى لإسرائيل غاز بعد عشرين عاما، وهو ما تحذر منه شريحة واسعة من الخبراء”. واستحضر يعكوبي التجربة المصرية نفسها قائلًا إن “ما حدث لمصر هو أنها كانت دولة مصدّرة للغاز، لكنها اليوم تستورده لأن احتياطاتها نضبت”، في إشارة تحذيرية إلى سيناريو محتمل في حال الإفراط في التصدير.
وفي قراءة تتجاوز البعد الاقتصادي، اعتبر يعكوبي أن الموافقة على الصفقة لم تكن قرارا إسرائيليا خالصا، بل جاءت أيضا في سياق ضغوط سياسية أميركية. وقال إن “الموافقة على هذه الخطوة جاءت بضغط من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في إطار دفع المفاوضات المتعلقة بالمرحلة الثانية من خطته بشأن غزة، واستمرار المسار التفاوضي في المنطقة”. وأضاف أن هذا الضغط “ترافق مع رغبة أميركية في دعم مصر اقتصاديًا”، ما وضع نتانياهو أمام معادلة سياسية معقدة.
وبحسب يعكوبي، فإن نتانياهو، في مواجهة هذا الواقع، “يشدد على المبررات الاقتصادية والعائدات المتوقعة، ويتحدث عن أموال طائلة ستدخل خزينة الدولة، وعن تحسين الوضع الاقتصادي في إسرائيل”، في محاولة لموازنة الضغوط الخارجية مع الحساسية الداخلية تجاه ملف الغاز.
هذا النقاش الداخلي تفاعلت معه أيضًا الصحافة العبرية. فقد أشارت صحيفة يديعوت أحرونوت إلى أن الصفقة، رغم ضخامتها، لا تتضمن أي ضمانات مكتوبة من الجانب المصري تجاه إسرائيل، سواء على المستوى السياسي أو الأمني. ولفتت الصحيفة إلى أن حديث نتانياهو عن “ضمان المصالح الأمنية” يعكس إدراكًا إسرائيليًا لحدود الاتفاق، ومحاولة لطمأنة منتقديه في ظل غياب التزامات مقابلة واضحة من القاهرة.
وأضافت الصحيفة أن الصفقة قد تُستخدم كمنصة لعقد لقاء ثلاثي يضم إسرائيل ومصر والولايات المتحدة، في محاولة لتحويل الإنجاز الاقتصادي إلى رافعة سياسية أوسع، حتى وإن أصرت القاهرة على إبقاء الاتفاق ضمن إطاره التجاري.
في المقابل، جاء الموقف المصري حاسما في نفي أي أبعاد سياسية. فقد نقلت صحيفة الأهرام عن رئيس الهيئة العامة للاستعلامات تأكيده أن صفقة الغاز “تجارية بحتة”، أُبرمت وفق اعتبارات اقتصادية واستثمارية خالصة، ولا تنطوي على أي تفاهمات سياسية. وشدد على أن التعاقد يخضع لقواعد السوق وآليات الاستثمار الدولي، وأن مصلحة مصر تكمن في تعزيز موقعها كمركز إقليمي لتداول الغاز في شرق المتوسط، اعتمادا على بنيتها التحتية المتقدمة.
وحذّر المسؤول المصري من محاولات تسييس الاتفاق أو تحميله أبعادا سياسية، مؤكدا في الوقت ذاته ثبات موقف القاهرة الداعم للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
في المحصلة، تكشف صفقة الغاز بين إسرائيل ومصر فجوة واضحة بين الخطاب الرسمي والتأويلات السياسية في اسرائيل، وبين ما يُقال على المنصات وما يُناقش في الكواليس. فهي صفقة تُقدَّم اقتصاديًا بوصفها إنجازا تاريخيًا، لكنها تُقرأ سياسيًا كجزء من معادلة إقليمية أوسع، تتداخل فيها الانتخابات الإسرائيلية، والضغوط الأميركية، وحسابات الطاقة والأمن في شرق المتوسط.



